يعيش الشرق الأوسط حالة من التحوّلات المتسارعة، في مشهد يبدو أكثر غموضًا من أي وقت مضى. وتشير الوقائع إلى أن مكانة إسرائيل الإقليميّة قد تعزّزت بعد نجاحها في إضعاف أعدائها الرئيسين، وأن الدور التركي يشهد صعودًا ملحوظًا في سوريا بعد سقوط نظام الأسد، فضلًا عن عودة صاخبة للولايات المتحدة كلاعب مؤثر ومباشر في المنطقة تحت قيادة ترمب، في حين تراجع الدور الروسي بشكل واضح.

بدأت سلسلة التحوّلات الكبرى مع سقوط نظام بشار الأسد، وسبقها تعرّض حركة حماس لضربات قاصمة، وتزامن معها فقدان حزب الله لزعيمه السياسي والروحي ومعظم قادته البارزين. ولا يمكن فصل هذه الأحداث عما تتعرّض له صنعاء من قصف متعدد المصادر. وفي هذا المشهد المضطرب، يظهر الرئيس الأميركي "ترمب" العائد بقوّة ليعلن عن سياساته للمنطقة والتي تفوق في تشدّدها مواقف حلفائه في تل أبيب، أما في الغرب العربي، فتقف ليبيا والسودان على حافّة التشرذم بين فصائل متناحرة. وعلى هامش هذه الصراعات الكبرى، تسعى كيانات إقليميّة صغيرة لتوسيع نفوذها، لكنها تصطدم بضعف القيمة والقامة لمحدوديّة قدراتها وضيق هامش مناورتها. في المقابل، تتأهب دول أخرى لتعزيز مكانتها في نادي القُوَى الإقليميّة الفاعلة.

وفي خضم هذه التحولات، يأتي السؤال عن إيران وحلفائها في العراق، الدلائل تقول إن إيران اليوم في وضع تاريخي صعب قد تضطر معه إلى انتهاج سياسة الانكفاء الإجباري، خاصة مع محدوديّة خياراتها الأخرى وارتفاع تكلفتها، لا مفرّ بعد أن تعرض المشروع الإيراني لضربات موجعة في الداخل (طِهران) والخارج (سوريا) وفي شبكة تحالفاته (محور المقاومة)، وتدرك طِهران أنها أصبحت في موقف ضعيف بعد فقدان حلفائها الاستراتيجيين وانكشاف هشاشة قدراتها الردعيّة أمام الضربات الإسرائيليّة التي طالت العمق الإيراني.

داخليًا، تواجه إيران ضغوطًا اقتصاديّة متصاعدة، ستزداد حدة مع تطبيق سياسة "الضغط الأقصى" الأميركيّة، مما يرفع احتمالات تجدّد الاحتجاجات الشعبيّة. لذلك، من المرجح أن تجد طِهران نفسها مضطرّة لإعادة ترتيب أولوياتها الداخليّة والإقليميّة، مع احتمال لجوئها إلى تصعيد محسوب يهدف إلى تحسين موقفها التفاوضي مع الإدارة الأميركيّة، ويبقى هناك سيناريو أكثر خطورة يتمثل في إمكانيّة تسريع إيران لبرنامجها النووي في محاولة لفرض واقع جديد على المنطقة والعالم، متحمّلة تبعات هذا الخيار.

أما الحكومة العراقيّة، فتجد نفسها اليوم في موقف شديد الحساسيّة، تحاول فيه الموازنة بين الضغوط الأميركيّة للحد من النفوذ الإيراني، ومساعي طهران وحلفائها لتعزيز وجودهم في العراق تعويضًا عن تراجع نفوذهم في سوريا ولبنان. ورغم هذه التحديات، فقد تشكل المتغيّرات الراهنة فرصة للعراق لاستعادة سيادته واستقلاله، وتوسيع هامش مناورته السياسيّة للعودة إلى محيطه العربي، وبناء علاقات متوازنة مع مختلف الأطراف الإقليميّة والدوليّة.

الخلاصة، مما لا شك فيه أن المنطقة تقف بِرُمَّتها على مَفرِقِ طرق حاسم. هنا فلسطين وأهلها جراحات مفتوحة، وهناك التوترات في ليبيا، والانقسامات في السودان، وطموحات الصغار لملء الفراغات الكبرى الناشئة، كلها دلائل على أن الشرق الأوسط إما سينجح في بناء نظام إقليمي جديد قائم على توازنات هشة، أو سينزلق نحو صراع شامل يهدّد الجميع. ويبقى السؤال المحوري: هل تتمكن إيران من التكيّف مع هذا النظام الجديد والمشاركة فيه؟ أم ستجد نفسها مهمّشة، عاجزة عن تجاوز أزماتها المتراكمة؟ الوقت وحده كفيل بالإجابة، لكن المؤكد أن الشرق الأوسط لن يعود إلى ما كان عليه سابقًا.

ركّبت النملة جناحين لتطير خلف الصقور فلما هبّت أول عاصفة لم يعد يراها أحد.