من الواجب نقاء الضمير لأئمة المسلمين وعامتهم، وذلك بأن يوطن الإنسان نفسه ويعقد قلبه على أن لا ينطوي لهم على غشٍّ ولا غلٍّ، وأن لا يُبيّتَ ما يعودُ على غيره بالضرر، وهذا حقٌّ عامٌّ وخاصٌّ لا يسوغ الإخلال به، وهو من صميم الديانة

للإنسان أدواتُ كسبٍ يكسب بها ما ينعكس عليه في معاشه ومعاده، فله ما كسب، وعليه ما اكتسب، وأُولى هذه الأدوات هي: القلب الذي هو أداة المعتقدات، وفيه يضمر الإنسانُ ما ينويه من خيرٍ أو شرٍّ، والثَّانية اللسان المفصح عن مضمرات النفوس، والثالثة الجوارح التي يزاول بها مختلف الأعمال، ويجب على الإنسانِ أن يتحكّم في هذه الأدوات على حسب الاستطاعةِ، وأن لا يتركها سُدى بلا ضابطٍ ولا حدود، والقلب أحقُّها بأن تُبذل الجهود في تنقية ضميره، وترويضه على الخير، ومعاهدته بوسائل التنقية والتّصفية؛ فإنه منبعُ السلامة لمن سلمت له تصرفاته، ومَكْمنُ الداء لمن اعوجّ سلوكه، كما في حديث النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله تعالى عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (أَلاَ وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً: إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ) متفق عليه، والمراد بصلاح القلب نقاء الضمير من الشوائب التي تشين العمل، وتلك الشوائب متنوعة حسب العمل، فشوائب العبادات إرادة غير الله تعالى بها أو إشراك غيره معه فيها، وشوائب التعامل مع الناس إضمار الشر لهم وانطواء الضمير على غشِّ أئمة المسلمين وعامتهم، ولي مع تنقية الضمير وقفات:

الأولى: عبادة الله تعالى أول ما يجب أن تُنقّى له الضمائر، وأن تخلص فيه النيّات؛ ولأهمية نقاء الضمير في العبادات كانت سلامة المعتقَد شرطاً أساساً لقبول الأعمال عند الله تعالى، فمن لم ينقِّ ضميره من الشِّرك كانت أعماله كلُّها مهدرةً سواء نوى الخير أم لم ينوه، ومن أكرمه اللهُ تعالى بالإيمان فأعماله مهيأة للقبول، لكن عليه أن لا يقدم على أيّ عمل إلا بنية صادقة، فالمؤمن قد يعرض في عمله الشرك الخفيُّ الذي هو الرياءُ فيحبطُ ذلك العملَ، كما يدلُّ عليه حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ"، أخرجه مسلم، ومن أقدم على العبادات بضميرٍ نقيٍّ وسريرةٍ صفيّة فقمن أن ييسِّرها الله تعالى له؛ وإذا نظر الإنسانُ إلى أحوال كبارِ السّنِّ الواهنة أجسامهم ممن نحسبهم من أهل الإخلاص، لرآهم ينهضون من الأعمال بما يعجز عنه الأقوياءُ الأصحّاءُ الذين لم ينطلقوا من نيّةٍ خاصةٍ وضميرٍ صافٍ، كما أن الإخلاص في عملٍ معيّنٍ من أسباب تقوى الله تعالى والاستقامة في سائر الأعمال، ولما كان الصوم سبباً للتّقوى كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)؛ وذلك لأنه من ألصق الإعمال بالإخلاص كما فسر به العلماءُ الحديث القدسيَّ: (كُلُّ عَمَلِ ابنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فإنه لِي وَأَنَا أَجزِي بِهِ)، فمما فُسِّر به: أن أعمال بني آدم يمكن الرياء فيها، فيكون لهم، إلا الصيام فإنه لا يمكن فيه إلا الإخلاص؛ لأن حال الممسك شبعًا، كحال الممسك تقربًا، وإنما القصد وما يبطنه القلب هو المؤثر في ذلك.

الثانية: من الواجب نقاء الضمير لأئمة المسلمين وعامتهم، وذلك بأن يوطن الإنسان نفسه ويعقد قلبه على أن لا ينطوي لهم على غشٍّ ولا غلٍّ، وأن لا يُبيّتَ ما يعودُ على غيره بالضرر، وهذا حقٌّ عامٌّ وخاصٌّ لا يسوغ الإخلال به، وهو من صميم الديانة، كما يدلُّ عليه حديث تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رضي الله تعالى عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: «لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ» أخرجه مسلمٌ، ومن فوائد هذه التنقية المشي على السداد والاستقامة في المعاملة؛ فالإنسانُ إذا أخلص في السمع والطاعة لولي أمره تهيأ له التمسّك بالأنظمة التي هي عصمة له بإذن الله تعالى من المشكلات والوقوع فيما يجر عليه التبعات، كما أنه إذا انطلق من نقاء السريرة للناس استطاع أن يكفّ عنهم شّره ويتقي كثيراً من شرورهم.

الثالثة: من الغفلة الشديدة أن يظنَّ من لا ينقّي ضميره أن ذلك لا يظهر، وأنه ينجو بغشِّه أبداً، أما الغشُّ في العبادة فأنّى يخفى على المعبود سبحانه وتعالى، وهو خالق السرائر وهو القائل: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)، وأما غشُّ ولي أمر المسلمين فعاقبته الافتضاح كما قال بعض الوُلاة: (أيّها الناس لا تخرجوا من أنس الطاعة إلى وحشة المعصية، ولا تُسرّوا غش الأئمّة، فإنه من غشّ إمامه أظهر الله سريرته في فلتات لسانه، وسقطات أفعاله)، وأما غشُّ الناس لا سيما الأصدقاءِ فالنظر الفاحص كفيلٌ بكشفه، كما قال القائل:

تَفَقّْد مَسَاقِطَ لحظِ المُريبْ ... فإنَّ العيونَ وجوهُ القلوب

وطالعْ بوادِرَه في الكلام ... فإنَّك تَجْني ثمارَ الغُيوب.