<br /><br />التسامح والعفو ليس بالأمر السهل على كل قلب، فهو يصعب على النفوس التي تألمت من الظلم أو الإساءة قولا كان أو فعلا. والواقع أن التسامح أمر اختياري، ولكنه ضروري! ولا بد أن يكون صادقا، لأن المزيف كالمرجل الذي يغلي من الداخل للانتقام، فيظل الإنسان يحترق ببطيء.<br /><br />وتجدر الإشارة إلى أنه تم اعتماد اليوم العالمي للتسامح في عام 1995م، على أساس مبادرة إطلاقتها اليونسكو «منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة»، والتي توافق يوم 16 من شهر نوفمبر الحالي. وهي تعرفه كما يلي: «التسامح يعني الاحترام والقبول والتقدير للتنوع الثري لثقافات عالمنا، ولأشكال التعبير وللصفات الإنسانية لدينا».<br /><br />ولكن دعونا نتأمل مسالة التسامح من منظور شخصي. وهو أولا يبدأ من الداخل، أي أن يتسامح الإنسان مع نفسه، وأظنكم قد سمعتم هذه الجملة من قبل، ولكنها مهمة للانطلاق في الطريق «التسامح»، فالبناء يبدأ من الداخل لا من الخارج. والمقصود ألا يحمل الإنسان نفسه فوق طاقته. والأمثلة على ذلك كثيرة، والخلاصة أنك تبذل المستطاع فيما تقدر، وأما إذا أتت النتائج على غير ما تحب، فالخيرة فيما اختاره الله سبحانه وتعالى. وهذا يقودنا إلى مفهوم «لا يكلف الله نفسا إلا وسعها»، ولا يعني ذلك الاتكالية أو الهروب من المسؤولية، ولكن كل حسب قدرته وشخصيته.<br /><br />أما الجزء الثاني فهو الخارجي، ونعني به مسامحة الآخرين فيما يحتمل ويستطاع، فلا نطالب الناس بالمثالية الزائدة عن المعقول والواقعي! ويُذكر عن غاندي أنه قال: «الضعيف لا يمكن أن يسامح، فالتسامح من صفات الأقوياء». والحقيقة أن البعض يعتقد جزما أن الذي يسامح هو الضعيف «وكما هو دراج يطلق عليه الطيب»، ولكن لو غصنا في أعماق النفوس لوجدنا أن هناك صارع قوي وشرس من أجل الصفح والعفو، وهذا لا يقدر عليه إلا القوي، ومن هنا نجد أن الحاقد أو المتكبر لا يستطيع أن ينام قرير العين، لما يحمله من غيظ وضعف في التغلب على النفس، فمجاهدة النفوس أمام الحقد والتشفي والانتقام، هي صور لصراعات نفسية قد لا تظهر للعيان، ولكن المتغلب عليها هو القوي حقا.<br /><br />ومن الشواهد على منزلة وقوة التسامح، ما جاء في السيرة النبوية بعد فتح مكة ونقلا عن ابن إسحاق، أن الرسول - عليه الصلاة والسلام - قال: «يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرًا، أخ كريم، وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء» «وللمعلومية والفائدة هي من المقولات المشهورة التي انتشرت، وقد ضعفها بعض أهل العلم». وفي نفس المعنى والقياس، قال يوسف عليه السلام لإخوانه: «لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ - يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ - وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ». ثم سار بعد ذلك الأقوياء في التسامح على نفس النهج، حيث روي عن الإمام أحمد بن حنبل أنه سامح الخليفة المعتصم بعد كل الأذى وألم الذي لحق به، ومثال آخر على سمو التسامح أن القاضي ابن مخلوف المالكي قال: ما رأينا أتقى من ابن تيمية، لم نبق ممكنا في السعي فيه، ولما قدر علينا عفا عنا.<br /><br />إن الانتقال والتحرر من أغلال الانتقام والتشفي إلى مرحلة التسامح ليس بالأمر الهين والسهل، فهو يحتاج إلى صبر ومعاناة من أجل الوصول إلى الراحة والتصالح مع النفس، وهو أمر يستحق التجربة والمحاولة الصادقة. وقد قال الإمام الشافعي: لما عفوتُ ولم أحقد على أحدٍ.. أرحتُ نفسي من غمِّ العدوات.<br /><br />@abdullaghannam<br /><br /><br />