<br />ليست العمارة شكلًا هندسيًا فحسب، بل لُغة تنطق بالانتماء، ومرآة تعكس هوية الإنسان والمكان. ومن هذا المنطلق جاءت مبادرة سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان «حفظه الله» بإعلان «خريطة العمارة السعودية»، كمشروع وطني يتجاوز الجماليات البصرية، ليعيد تشكيل المشهد العمراني السعودي بروحٍ تنبع من الأرض، وتنتمي إلى جذورها.<br />إن هذه الخطوة اللافتة تُمثّل تحولًا مفصليًا في فهمنا للمدينة والبيت والحي، ففي كل تفصيل من تفاصيل هذه الخريطة، تتجلى رؤية تُعيد للعمارة دورها الطبيعي، أن تكون تعبيرًا عن الثقافة، وامتدادًا للبيئة، وتجسيدًا لروح المكان.<br />لأعوامٍ طويلة، ظلت مدننا تتشابه، فقد غابت الهويّة، وذابت الملامح المحلية في قوالب معمارية مستوردة لا تُشبه الإنسان ولا تُحاكي المكان، واليوم، مع هذه الخريطة الجديدة، تستعيد كل منطقة سعودية ملامحها الخاصة، بتنوعٍ عمراني يعكس ثراء الوطن الجغرافي والثقافي، من سحر الأحساء، إلى عمق نجد، إلى سطوح الحجاز، وجبال عسير.<br />تسعة عشر طرازًا معماريًا، تم توثيقها بعناية، كل واحد منها يحمل بصمة بيئته وتاريخه وثقافته، إنه تنوّع لا يُشتّت، بل يُوحّد، لأنه مبني على أسس راسخة من التراث والانتماء.<br />حين تتحدث المدن بلغتها الخاصة، فإنها لا تكتفي بأن تكون جميلة، بل تصبح مريحة، مألوفة، تُشبه ساكنيها وتُرحّب بزائريها ، وهنا تتجلى رؤية سمو ولي العهد «حفظه الله»، الذي لم يكتفِ برسم ملامح الاقتصاد والسياسة، بل ذهب إلى أبعد من ذلك، إلى رسم ملامح المدن بوعيٍ حضاري، يعلي من شأن الإنسان قبل العمران.<br />هذه الخريطة لا تُوجّه المعماريين فحسب، بل توجّه الذائقة العامة، وتُعيد تشكيل العلاقة بين المواطن وحيّه وبيته، وتضع أساسًا جماليًا يستلهم من التراث لا ليبقى فيه، بل ليتجاوزه إلى المستقبل.<br />العمارة ليست ترفًا بصريًا، بل أداة تنموية وسياحية وثقافية ،وحين تُبنى المدن بذوقٍ رفيع وهوية واضحة، فإنها تتحول إلى وجهات مستدامة، تنبض بالحياة وتدعو للاستكشاف، وهذا ما تعكسه هذه المبادرة، التي تُسهم في تعزيز جودة الحياة، وتحفيز الاقتصاد الإبداعي، وخلق فرص جديدة في مجالات التصميم، والفنون، والحرف، والتعليم.<br />إن ما أطلقه سمو ولي العهد «حفظه الله»، هو في حقيقته إعلان ثقافي عميق، يُذكّرنا بأن المدن ليست فقط شوارع وكتل خرسانية، بل كائنات حية، لها وجوه وملامح، تعيش وتتنفس وتُخبر الزائر من أول نظرة.. هذا وطن له طابعه، وله خصوصيته، وله صوته الخاص.<br />ومن بين هذه الطرازات التسعة عشر، كان للمنطقة الشرقية نصيبٌ وافر، حيث حظيت بأربعة طرازات تعبّر عن تنوّعها البيئي والإنساني والثقافي ،فمن عمارة واحات الأحساء التي تستلهم من الخضرة والماء والظل والطمأنينة، إلى عمارة القطيف ذات الروح البحرية والنسيج المجتمعي العريق، وصولًا إلى عمارة الساحل الشرقي التي تروي حكاية البحر والانفتاح والتجارة، ثم العمارة النجدية الشرقية التي تمزج بين البساطة والعمق الصحراوي والامتداد التاريخي.<br />إنها أنماط تعيد للأماكن صوتها البصري الخاص، وتمنح مدن الشرقية ملامحها الأصيلة، بل وتُحفّز أهلها ليكونوا شركاء في كتابة هذا التحوّل الحضاري الفريد.<br />ختامًا، خريطة العمارة السعودية، ليست مشروعًا في دفتر تخطيط عمراني، بل فصل جديد في قصة الوطن، تُروى بالحجر، وتُزخرف بالأقواس، وتُوقعها نوافذ تطل على ذاكرة المكان، إنها خطوة من سموه تؤكد أن المستقبل لا يُبنى بغير وعيٍ بالجذور، وأن العمارة حين تكون سعودية الروح، تكون أجمل، وأصدق، وأبقى.<br />@AlabdulatifOmar<br /><br />