العودة المدرسية:  أي نظام تعليمي لتونس؟

هيمنت العودة المدرسية يوم أمس على الأحداث لتحجب ما دونها،

وفرضت على الجميع ايقاعها لما تعنيه لهم بطريقة او بأخرى، اذ نحن ازاء عودة 2.345 مليون تلميذ وتلميذة الى مقاعد الدراسة في التعليم الابتدائي والاعدادي والثانوي، أي خمس التونسيين تقريبا، وهذا كاف لوحده لبيان مدى اهمية العودة المدرسية في المخيال وفي الواقع الجماعي التونسي.

فمنذ سنوات عدة اصبح حلول 15 سبتمبر من كل سنة حدثا وطنيا ومناسبة جديدة لطرح سؤال تكرر طيلة السنوات الـ 66 منذ تونسة التعليم التونسي سنة 1958 بتبني مشروع «المسعدي» الذي رسم خارطة طريق لتعميم سريع لتعليم عمومي، عصري واجباري ومجاني، راهنت عليه دولة الاستقلال في إطار خطة أشمل رفعت شعار «تحديث الدولة».

مشروع استطاع الصمود الى بداية الثمانينات قبل ان يبلغ مداه ويدخل في منطقة الأزمة التي تجلت في ارتفاع نسبة الانقطاع المدرسي وتباين بين مناهج التعليم المتبعة وبين الطفرة المعرفية التي عرفها العالم خلال السنوات الثلاثين الممتدة من 1950 الى 1980، مما نجم عنه اتساع الهوة بين ما تفرزه المنظومة التعليمية وما تحتاجه البلاد واقتصادها. وقد تفاقمت الأزمة طيلة عقد لذلك اعلن سنة 1991 عن اول إصلاح هيكلي شامل للتعليم العمومي في تونس ارتكز على إلغاء التكوين المهني واقرارا اجبارية التعليم الى غاية السن 16. يومها طرح السؤال هل ان هذا الخيار هو الأفضل وهل هو التعليم الذي يحتاجه التونسيون وتحتاجه الدولة.

وقد شهد إصلاح محمد الشرفي بدوره بعض التعديلات والإصلاحات التي سعت الى سد النقائص ومعالجة بعض التعثرات قبل ان تشهد البلاد موجة ثالثة من الإصلاحات خضعت بدورها الى التعديل والمراجعة، كما استمر هذا الوضع مع إصلاح 2002 الذي حافظ على اجبارية التعليم إلى سن 16 وادرج بعض التعديلات على مناهج التعليم ومعايير التقييم. وقد تكرر نفس السؤال.

مرت 66 سنة منذ أن وحدّت دولة الاستقلال التعليم وعمّمته وفرضت إجباريته لكن السؤال لم يتغير. هل هي المدرسة التي نريدها وهل ان هذا النظام هو النظام التعليمي المناسب للتونسيين وللبلاد عامة وما هو الانموذج الأنسب لنا؟ وغير ذلك من الاسئلة التي تجتمع تحت بند عريض: ما هو النظام التعليمي الذي نحتاجه؟

سؤال من الصعب الإجابة عنه اذا لم يكن طرحه ضمن سياق أعم وأشمل، على غرار ما حصل مع دولة الاستقلال كذلك مع فكرة التعليم والتمدرس العصري التي برزت في أوروبا منذ ثلاثة قرون وأكثر، ويتعلق بمشروع وطني أشمل يلعب فيه التعليم دورا رئيسيا، كما كان عليه الأمر عشية الاستقلال او في المراجعة الاولى التي حصلت سنة 1967 تاريخ إنشاء أول هيئة تعليم وطنية كلفت بتقديم التوجيهات والتوصيات الى الحكومة التي أطلقت مشروعها لبناء اقتصاد حديث وعصري.

بعيدا عن التقييمات الجازمة بنجاح أو فشل مشاريع إصلاح التعليم في البلاد طيلة السنوات الفارطة والتي لا يمكن أن تتم دون وجود هدف معلن للمدرسة/للمعهد التونسي في اطار تصور اشمل وهذا لم يحصل منذ 22 سنة شهد فيها النظام التعليمي التونسي تدهورا لا تعبر عنه المؤشرات الإحصائية المتعلقة بالبنية التحتية بقدر ما يعبر عنه إعلان التونسيين أنفسهم عن رضاهم من عدمه على نظامهم التعليمي.

اذا نظرنا إلى التعليم على انه استثمار عمومي وطني وقيمنا ما يحققه من عائد استثماري، وهذا العائد ليس ماديا ماليا، بل هو التحصيل العلمي الذي يمكن قياسه اعتمادا على المقاييس الدولية لجودة التعليم، مثل برنامج (PISA) و(TIMSS) سنقف على آخر تقييم للطلبة التونسيين ضمن برنامج التقييم الدولي للطلبة (بيسا PISA) الذي نشر سنة 2015 (اذ غابت تونس عن تقييمي 2018 و2022) وقد صنفت تونس في المرتبة 66 من بين 70 دولة مشاركة في التصنيف. وكان تقييم أغلب الطلاب المشاركين تحت مستوى الكفاءة التعليمية.

هذا المستوى ترك صداه في سبر اراء أجرته مجموعة بحثية مستقلة باسم «الباروميتر العربي» أشار الى أن أكثر من 71 ٪ من عينة الاستطلاع ممن يتراوح سنهم بين 18 و36 عاماً غير راضين عن النظام التعليمي التونسي، وهذه الفئة العمرية شهدت اما اصلاح 2002 او اصلاح 1991 او كليهما. كما اعربت الفئة العمرية من 37 الى 52 بنفس النسبة عن عدم رضاها على التعليم التونسي.

كان الأفراد من هذه الفئة العمرية هم المستهدفون الأساسيون باصلاحين من الاصلاحات المذكورة أعلاه (إصلاح التعليم الأساسي ومرحلة الليسانس والماجستير والدكتوراه). كما أن 73 ٪ من الفئة العمرية 37 إلى 52 (وهي الفئة المستهدفة بتعريب التعليم) أعربت عن عدم رضاها عن النظام التعليمي.

هنا نحن ازاء تقاطع بين تقييم اكاديمي يعتمد على منهجية موثوقة وبين تقييم فردي يعبر عن رضاه من عدمه، يلتقيان في الكشف عن تدهور التعليم التونسي والمدرسة مما يتطلب منطقيا ضرورة الإصلاح والمراجعة، هنا مربط الفرس واصل الجدل، اذ ان تحديد اي خيار اصلاحي يكون الاسلم والانسب لتونس محل تجاذب سياسي وفكري اسقط عنه ضرورة ان يتم الاعتماد في اية مقاربة اصلاحية على معطيات موضوعية واكاديمية يمكن ان تساعد على وضع مشروع اصلاح التعليم التونسي لا يعتمد على هواجس سياسية بل على حاجيات واقعية وموضوعية للمجتمع التونسي، اي تعليما في خدمة التونسيين.