في العالم الواقعي او في العالم الافتراضي، اللذين تقاطعا في توجيه اتهامات لهذه المكونات بالخيانة والعمالة والحصول على تمويلات مشبوهة، جدل عاد منذ ان اعلنت هيئة الانتخابات عن احالتها لملفات تتعلق بتمويل جمعيات الى النيابة العمومية، وازداد حدة اثر مسيرة شبكة الدفاع عن الحقوق والحريات يوم الجمعة الفارط.
حدة النقد الصادرة عن مؤسسات رسمية او غيرها فتحت المجال لـ«جمهور» يناصر السلطة لطرح تصوراته الخاصة بادارة الشان العام وضرورة انهاء وجود هذه المكونات من المشهد العام برمته باعتبارها تشكل امتدادا لدوائر ومصالح اجنبية تبحث عن التأثير في القرار وفي السيادة التونسية والحجج المقدمة.
حجج تقفز على جملة من المعطيات وتوظف بعضها لجعل سردية «خيانة النخبة للشعب» ذات مصداقية وموثوقية مفتعلة بهدف تدعيم تصورهم القائم على الغاء وجود هذه المكونات كما كان الامر في علاقة بالاحزاب والنقابات قبل ذلك، لنكون امام موجة جديدة من ضرب الاجسام الوسيطة بشعارات تكتسب بعض الوجاهة في علاقة بمراقبة تمويل المنظمات والجمعيات.
هنا، بدل فتح نقاش عام يسعى الى اثراء المشهد وبلوغ تصور جامع قدر الامكان، يحصل القفز على الاحداث والمعطيات لطرح طلب انهاء وجود المنظمات خاصة تلك التي تفصح عن نقدها الحاد واللاذع للسلطة. مما يتطلب اليوم اعادة النظر في المشهد برمته بعيدا عن هذه الرؤية القصووية للاشياء.
رؤية تقوم على غلق الفضاءات امام المجتمع المدني ومكوناته باعتبارهما المربع الاخير الذي تحتمي به النخبة التونسية وتدافع من خلاله على الحقوق والحريات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفردية، وهو ما قد يمثل حجز عثرة امام اية منظومة شعبوية ترغب في احكام هيمنتها على الفضاء العام ومركزة سلطتها وحكمها.
العداء للأجسام الوسيطة، منظمات او أحزاب او جمعيات أو وسائل إعلام مرده الاساسي ما تمثلّه هذه الأجسام من سلطة مضادة في وجه السلطة السياسية القائمة، ودورها التمثيلي للمجتمع كوسيط بين مجموعاته وبين الدولة بما يملكه من ادوات وقدرة على مراقبة السلطة وسلوكها وتنظيم تحركات وتدخلات تحد من التغول او السعي الى السيطرة على الفضاءات العامة، الشوارع او الاعلام الخ.
في مضمون السردية الرافضة لوجود الاجسام الوسطية يتغير الدور لتصبح الاحزاب والمنظمات والجمعيات والنقابات والاعلام مجموعة من المتلاعبين بمصالح الشعب وحاضره ومستقبله من اجل مصالج ضيقة والاستئثار بالامتيازات والسلطة دون الشعب الذي يسوق هنا على انه وحدة صماء لا يشقها الاختلاف، كذلك التسويق القائم على شيطنة الاجسام الوسطية التي تلعب دورا الاجسام التمثيلية يستند على بعض التجاوزات او الاخطاء او الانحرافات الصادرة عن فرد او عن منظمة او جمعية للاستدلال على ان الكل فاسدون وخائنون وعملاء ،بما يجعلهم في حالة عداء مع «الشعب». فلا يمكن ان يقع شيطنة الاجسام الوسيطة دون ان يقع تعظيم امر الشعب كوحدة صماء تدرك الحقيقة وتمثل الخير.
بذلك نصبح امام تصور لا يلغي الاجسام الوسيطة فقط بل يلغي التعددية في المجتمع التونسي ويجعله مجتمعا «اصيلا» لا اختلاف فيه يستوجب وجود وسائط بين الدولة/السلطة وبين المواطنين طالما ان الدولة السلطة تعبير مباشر وصريح عن ارادتهم، عبر ادواتها الجديدة المتمثلة في مجلس النواب ومجلس الاقاليم والجهات والمجالس المحلية والجهوية.
ولئن كانت في ذلك وجاهة ومقبولية نظرية لدى جزء واسع من التونسيين الا ان ذلك لا يلغي الاجسام الوسطية ولا المنظمات ولا يعوضها بل يبرز في محطات عدة اهميتها في تنظيم التونسيين في مجموعات تنشط في الفضاء العمومي كمجموعات تدافع عن ملف الحريات او الحقوق السياسية بل وتلك التي تقدم خدمات متعددة لجزء من التونسيين.
فكرة الغاء الاجسام الوسطية كليا والابقاء على الجمعيات ذات النشاط الاجتماعي والثقافي كما يسوق لها اليوم من قبل بعض المجموعات التي تتنظم هي الاخرى كجمعيات او احزاب فيه محاولة لفرض نمط معين على المجتمع التونسي وقولبته سياسيا وهذا لم يعد ممكنا ولا هو في صالح المجتمع، فغياب التعددية ليس الا اعلانا عن غياب اية دينماكية داخلية للتطور والتقدم.