القطيعة مع إرث بايدن: أية سياسات سيحملها ترامب للشرق الأوسط؟

"ليست حربنا".. لعل هذه المقولة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، التي تتعلق بحرب غزة،

والتي أطلقها فور تنصيبه، تعكس الكثير من توجهاته السياسية القادمة ليس فقط في علاقة بالقطاع المنكوب والدول العربية، بل في علاقة أيضا بالعالم. فهذا الرجل الذي تم اختباره في العهدة الأولى لن يسمح لبلاده أن تنفق على حروب "خاسرة " ولا تحقق مصالح الأمريكيين بالدرجة الأولى.

يعود ترامب اليوم إلى سدة الحكم في البيت الأبيض وأمامه شرق أوسط يتغير، ويبدو أن شغله الشاغل سيكون بالأساس استفادة "الأمة الأمريكية سليلة مارتن لوثر كينغ" من كل هذه التحولات بأكبر قدر من الانتعاش الاقتصادي والمالي والتموقع السياسي. والبادي للعيان من خلال التصريحات والتلميحات للرئيس الأمريكي القديم – الجديد، ومن خلال القرارات المتخذة، أن "القطيعة مع ارث بادين" تلخص رؤية ترامب لعديد الملفات الساخنة إقليميا ودوليا.
ففور توليه الحكم سارع ترامب إلى إلغاء 78 قرارا رئاسيا للإدارة السابقة، وأعلن عن فرض ضرائب إضافية على الدول، وعن إقامة صندوق خاص لتعبئة ميزانية بلاده واثرائها. ومن الواضح أن ترامب يعوّل على طبقة من رجال الأعمال وأثرياء الولايات المتحدة، لتحقيق سياساته، وفي مقدمة هؤلاء الفاعلين والأثرياء، إيلون ماسك الذي يعتبر الجناح الإعلامي لترامب بامتياز، فهو عضو بارز في الفريق الرئاسي للرئيس الأمريكي وقدم له دعما سخيا غير مسبوق خلال حملته الرئاسية تجاوز الـ110 مليون دولار.
"ليست حربنا" قالها ترامب عن غزة ولكنه أيضا في خطاب القسم كررها بوضوح في سياق حديثه عن ملفات أخرى. فبقدر سعي ترامب الى تصفية حساباته مع إدارة بادين وسياساتها التي ما انفك يهاجمها وينتقدها ويعتبر أنها "كارثية" على الأمريكيين، فإنه يسعى أيضا لتحقيق حلمه بالإبقاء على التفوق الأمريكي والمحافظة على بلده كعملاق اقتصادي وسياسي في العالم وذلك من خلال محاربة ألد المنافسين. وهو يعتقد بأن الإدارة البيضاوية ليست مجبرة على الانخراط في التزامات دولية بيئية وصحية تهدّد اقتصاد بلاده مهما بلغت عواقب قراراته وخطورتها على التحولات البيئة والمناخية في العالم.
وفيما يتعلق بالشرق الأوسط هناك قناعة راسخة لدى الكثيرين مفادها أن هذه المنطقة من العالم ستعيش مرحلة صعبة في ظل حكم الساكن القديم الجديد للبيت الأبيض الذي يدير سياسات أمريكا الخارجية وفقا لمصالح رجل الأعمال الذي يؤمن بلغة الصفقات. فقبل أعوام أطلق ترامب " ما أسماه بصفقة القرن أي الاتفاقات الابراهيمية "وضغط من أجل ادخال أكبر عدد من الدول العربية فيها. ولذلك فإن هناك اعتقادا بأن هذه الصفقة ستكون أولى اهتمامات الإدارة البيضاوية بكل ما يمثله ذلك من خطورة على الحقوق التاريخية للفلسطينيين الذين لم يجدوا في حربهم الأخيرة في غزة سوى بنادقهم ودماءهم للدفاع عن كل ذرة تراب من وطنهم.
فترامب الذي لا يُخفى دوره في الضغط على نتنياهو للرضوخ لاتفاق وقف اطلاق النار مع حماس و" تنظيف الساحة " قدر الإمكان قبل قدومه، يبدو أن ما يهمّه بالدرجة الأولى هو مصلحة أمريكا في الشرق الأوسط وما ستكسبه من صفقات. وبقدر الوضوح فيما يتعلق بالسياسات العامة التي سيتبعها في المنطقة، فإن هناك غموضا فيما يتعلق بموقف ترامب من باقي مراحل الهدنة في غزة وهو الذي صرّح للصحفيين في المكتب البيضاوي بما مفاده: "لست واثقا من استمرار وقف إطلاق النار في غزة، إنها حربهم وليست حربنا".
ويبدو أنه أمام مثل هكذا غموض، وفي ظل عدم الحسم من قبل ترامب فيما يتعلق بإتفاق الهدنة، سيكون نتنياهو المطلوب للعدالة الدولية، والذي تنتظره محاكمات بالجملة داخليا وخارجيا في طريق مفتوح لتحقيق ما عجز عن نيله مع الإدارة البيضاوية السابقة فيما يتعلق بغزة. كما أن الفرصة تبدو سانحة أمامه للتراجع عن اتفاق الهدنة واستئناف الأعمال العدوانية في القطاع المنكوب وهو الذي تراجع في التسعينات عن كل إتفاقيات السلام التي أبرمها حزب العمل ممثلا برابين وبيريز مع الفلسطينيين.
وفيما يتعلق بإيران فانه من المتوقع ان يكون تعامل ترامب مع الملف النووي الإيراني مشابه لولايته الأولى. فقد ضغط على طهران قدر المستطاع وضيق عليها الخناق في ملفها النووي ولم يردعه عنها سوى اهتمامه بأزمة الكوفيد 19 في بلاده.
أما فيما يتعلق بلبنان، الذي يعيش على وقع إنتهاء مهلة الستين يوما لتواجد جيش الاحتلال ببعض المناطق من جنوبه، فان البعض يرى أن ترامب لن يسمح ببقاء "إسرائيل" هناك ولا بتواجد حزب الله على خط التماس مع الكيان الصهيوني. لأنه يريد إيجاد مناخ مستقر لتنفيذ مخططاته وصفقاته في المنطقة بعيدا عن لظى الحروب وركامها.
في المقابل، فإن الغموض يكتنف توجهات ترامب في الملف السوري مع الإدارة الجديدة لدمشق. فخلال الحملات الرئاسية الامريكية أدلى ترامب بتصريحات قليلة فيما يتعلق بهذا البلد العربي المحوري، وانصب جلّ تركيزه على دور تركيا في سوريا . واليوم يبدو أن أمام ترامب خياران الأول هو الانخراط في سوريا مباشرة أو العمل مع باقي الوكلاء وخاصة تركيا. والمعلوم أن أمريكا دعمت بقوة عسكريا وماليا القوات الكردية في الشمال السوري، ويرتبط الوجود الأمريكي بنظر البعض بالدور الكردي في العملية السياسية.
اما فيما يتعلق بالعلاقة مع السعودية، فان الرياض عبّرت عن رغبتها في توسيع علاقاتها التجارية مع واشنطن بـ600 مليار دولار. ويتزامن ذلك مع توقيع الرئيس الأمريكي أمرا تنفيذيا لإعادة تصنيف جماعة الحوثي في اليمن كـ "منظمة إرهابية أجنبية".
لقد عاد ترامب إلى البيت الأبيض، باختصار، بأجندة رجل الأعمال وهو يعمل على تحقيق هدفين أولها تطوير الاقتصاد الأمريكي والتركيز على القضايا الداخلية التي تثير اهتمام الأمريكيين مثل نظام الصحة والتعليم والبنية التحتية والحوكمة والذكاء الاصطناعي وغيره. وبالنسبة له فإن الشرق الأوسط وعلاقة إدارته مع دوله، يجب أن تتكامل مع شعار " امريكا أولا " أي أن كل ما سينتهجه في تلك المنطقة من سياسات يرتبط بالأساس بما سيقطفه الأمريكيون من ثمار في هذا الشرق -أوسط الذي لا تهدأ فيه العواصف السياسية العاتية.