عنف واقتتال طائفي في سوريا:  الخيارات والمخاطر والفرص الممكنة

خلال الايام الفارطة حملت المشاهد القادمة من الساحل السوري تطورات صادمة واحداث عنف طائفية

اسفرت عن مقتل العشرات، لتلقي بسوريا على اعتاب مرحلة مفصلية وحساسة، ستحدد شكل الدولة السورية والمنطقة من ورائها، في ظل مخاوف تتصاعد اليوم من انزلاق البلاد مجددًا في أتون الحرب الأهلية والعنف الطائفي.

ان الاشتباكات الأخيرة التي اندلعت في الساحل السوري، وتحديدًا في مدينة جبلة ومحافظة اللاذقية، أعادت احياء مارد العنف والطائفية التي تثيرها التوترات الكامنة بين القوى السياسية والعسكرية المختلفة، في اطار صراع بين حكومة انتقالية مكلفة من قبل الشرع ببسط سيطرتها ونفوذها على البلاد.

سيطرة تتنامى المقاومة العنيفة لها يوميا، اذ تبرز مجموعات مسلحة موالية للنظام او لـ«قسد» او غيرها من الفصائل المسلحة التي اشتبكت في المواجهات الدامية، اخرها اليوم بين مجموعات موالية للنظام القديم والقوات الامنية السورية الجديدة، لتسفر المواجهات بينها عن سقوط مئات القتلى والجرحى، وكشفت عن هشاشة الوضع الأمني في سوريا وتوفر الارضية المناسبة لنشوب حرب طائفية واهلية قد تكون اعنف مما مرت به البلاد خلال سنواتها الثلاث عشرة الفارط.

كما كشفت المشاهد التي نقلت من الساحل السوري عن عمليات اعدام لمدنين لاسباب طائفية او دينية، اضافة الى مشاهد عنف شديد تبين ان الاشتباكات الأخيرة لم تكن مجرد مواجهة بين قوات الأمن ومجموعات متمردة، بل هي مؤشر ودلالة عن عمق الانقسامات السياسية والطائفية التي لا تزال تهدد النسيج الاجتماعي السوري.

احداث ولدت حالة من الذعر لا لسكان المناطق التي جدت فيها المواجهات فقط، وهم بالاساس من الطائفة العلوية، بل من غيرها من الطوائف والملل والاقليات الدينية والعرقية التي يجمع بينها انها باتت في وضع معقد، فهي تخشى التعرض للانتقام بسبب ارتباطها السابق بالنظام او لاختلافات بينها وبين هيئة تحرير الشاهم التي يتزعمها الشرع الرئيس السوري الحالي او في صدام مع مجموعات مسحلة تكفيرية.

تعقيدات المشهد لا تتوقف عند مخاوف كل طرف والتقاء المخاوف وتجسدها في الشرع وفي جماعته المسحلة بل تتفاقم لتشمل عدم ثقة جزء واسع من السوريين في قدرة الحكومة الجديدة ومؤسسات الدولة على توفير الحماية لهم، إما لعدم ثقتهم في الطيف السياسي المكون للحكومة او لااداركهم انها لاتزال ضعيفة وهشة غير قادرة على مواجهة مجموعات مسحلة تكفيرية أو وضع حد للانفلات والفوضى.

كل هذه الديناميكات تجتمع لتضع سوريا في مواجهة مباشرة مع تحديات إعادة بناء الثقة بين مختلف مكونات المجتمع ومنع تحول الصراع السياسي إلى اقتتال طائفي يعيد إنتاج سيناريوهات الحرب التي دمرت البلاد لعقد من الزمن.

هذا قد لا يكون ممكنا في ظل غياب مشروع سياسي جامع يقلص من تعقيد المشهد، فالنظام الجديد بقيادة أحمد الشرع لم يوجه اية رسائل او مؤشرات بنيته صياغة ارضية سياسية ومشروع سوري مشترك مع مختلف الأطراف المتنازعة اليوم على تحديد هوية وشكل الحكم في سوريا.

عدم تحقيق هذه الخطوة رفع من حدة التوترات الطائفية، التي لم تهدأ، وجعل تفاقهما عملية مستمرة في ظل محاولة مجموعات اسلامية محسوبة ومقربة من السلطات السورية الجديدة، فرض سيطرتها عبر فرض الأمر الواقع وفرض نماذج مجتمعية في بعض المناطق التي تنتشر فيها الأقليات والطوائف التي باتت اليوم تواجه مدا تكفيرا يستهدفها مما يجعلها في مواجهة مستقبل غامض ومصير غير مضمون.

ذلك ما يؤدي الى تراجع القاعدة السياسية لنظام الشرع وتصاعد الاصوات الناقدة له والتي تمثل طيفا واسعا من مكونات المجتمع السوري لمحاولته فرض نموذج حكم غير توافقي يعزز مخاوف قطاعات واسعة من السوريين، خاصة منها الأقليات والطوائف التي عانت من التهميش والاضطهاد خلال السنوات الماضية.

تلك أخطر العوامل التي تهدد استقرار سوريا اليوم بحكم غير توافقي لغياب مشروع سياسي جامع. يسمح ببلورة رؤية وطنية شاملة، تمكن الحكومة او السلطة الانتقالية القائمة من تجاوز حالة الضعف وبسط نفوذها على كامل التراب السوري بصفتها حكومة لكل السوريين لا حكومة لطائفة منهم او لفصيل سياسي بعينه دون البقة.

ان التحدي الأكبر أمام اية حكومة او سلطة انتقالية ليس في مواجهة الجماعات المسلحة الموالية للنظام السابق ولا في التصدي للمطامع التوسعية للاحتلال، بل في كيفية توحيد مختلف السورين خلف مشروع وطني يراعي التنوع السياسي والاجتماعي لسوريا.

هنا تبرز ضرورة البحث عن مقاربة سياسية شاملة تستند إلى الحوار والمصالحة، وذلك بمراجعة جميع الأطراف لمواقفها، والتخلي عن منطق الهيمنة وفرض الإرادة بالقوة. فالتجارب التاريخية تؤكد أن أي انتقال سياسي لا يأخذ بعين الاعتبار مخاوف وتطلعات جميع الفئات، محكوم عليه بالفشل. من هذا المنطلق، فإن المصالحة الوطنية لم تعد خيارًا ثانويًا، بل باتت ضرورة ملحّة لإنقاذ البلاد من خطر التقسيم والانهيار.

ان تحقيق هذا الهدف يتطلب خطوات جريئة، تبدأ بإنهاء الفوضى الأمنية ونزع السلاح من جميع الفصائل غير النظامية، ودمج القوى المسلحة ضمن مؤسسات الدولة وفق معايير وطنية واضحة، تضمن عدم إعادة إنتاج النزاعات المسلحة تحت أي مسمى.

ان ضبط المشهد الأمني لا يكفي وحده، بل يجب أن يترافق مع إجراءات سياسية شاملة، تضمن تمثيلًا حقيقيًا لمختلف القوى، وتمنع أي طرف، من فلول النظام السابق أو من الفصائل الإسلامية، من احتكار السلطة.

سوريا الجديدة يجب أن تُبنى على أسس ديمقراطية، تضمن لجميع المواطنين حقوقهم دون تمييز، بعيدًا عن الاستقطابات الطائفية والإيديولوجية التي كانت السبب الرئيسي في انهيار الدولة خلال العقد الماضي.

المستقبل السوري يتوقف على قدرة القوى الفاعلة على تجاوز الحسابات الضيقة والانخراط في عملية سياسية حقيقية تضع مصلحة الوطن فوق أي اعتبار.

المصالحة الوطنية وحدها يمكن أن تمنع البلاد من السقوط مجددًا في مستنقع الحرب، أما استمرار الانقسامات والمراهنات على العنف، فذلك لن يؤدي إلا إلى إعادة إنتاج المأساة وإطالة أمد معاناة السوريين الذين أنهكتهم الحروب والدمار