تحسن بعض مؤشرات الاتقصاد التونسي:  هل هي انتعاشة أم هو تحسن ظرفي ؟

خلال الأيام القليلة الفارطة، تواترت التقارير الصادرة عن المؤسسات الرسمية

التي أشارات إلى أن الاقتصاد التونسي يشهد تحسنًا في بعض مؤشراته الكلية، كتراجع التضخم إلى 5.7 %، وارتفاع طفيف في نسبة النمو، وعودة نسق الاستثمارات الجديدة في قطاعات واعدة. أرقام تم تقديمها على أنها دليل على تعافي الاقتصاد التونسي وبداية انتعاشه.

سردية تم تناقلها دون أن يُسمح بطرح حزمة من الأسئلة، أبرزها: هل أن هذه الأرقام تعني حقًا أن الاقتصاد التونسي تعافى وغادر منطقة الخطر؟ أم أنها تعكس تحسنًا ظرفيًا لا يغيّر من طبيعة الأزمة العميقة التي يعيشها الاقتصاد؟ وبالتالي، هل أن ذلك سيغير من الواقع المعيشي للتونسيين، أم أنها لن تكون مستدامة بحيث تؤسس لانتعاش اقتصادي فعلي؟

هذه الأسئلة وغيرها والتي تتناول الوضع الاقتصادي لا يمكن الإجابة عنها إلا بالانطلاق من واقع البلاد والعباد خلال السنوات الأخيرة، والتي تميّزت بأن اقتصادنا يدور في حلقة مفرغة، أبرز ملامحها النمو الهش والأزمة الهيكلية التي طالت كل القطاعات والمجالات، وحالت دون أن نحقق نموًا كافيًا يمكن من إحداث صدمة إيجابية وهيكلية في بنية الاقتصاد.

متوسط نمو الناتج الداخلي الخام خلال السنوات العشر الأخيرة كان في حدود 0.03 %، ومتوسط النمو السنوي المحقق خلال ذات الفترة أقل من 1 %، ورغم تحقيق نسبة تتجاوز هذا المعدل خلال الثلاثي الأخير من سنة 2024، إلا أن ذلك لم يقترن بتحسن جوهري في النشاط الاقتصادي، بقدر ما كان تصحيحا آليا لوضع متدهور.

إن القطاعات التقليدية، مثل الصناعات التحويلية والاستخراجية والفلاحة والصناعات الغذائية، التي قادت النمو في تونس، لم تشهد تحولًا ذا أهمية يمكنه أن يخلق ثروة جديدة، بقدر ما شهدت وشهد معها مؤشر النمو تحسنًا ناتجًا عن استثمارات ظرفية واستعادة بعض الأنشطة المتراجعة، أي أنها لم تكن وليدة ديناميكية اقتصادية حقيقية.

مثال ذلك، مؤشرات التضخم التي واصلت تسجيل تراجع، حيث بلغت في شهر فيفري 2025 نسبة 5.7 %. هذا المؤشر، حتى وإن كان إيجابيًا بلا شك، الا أنه لم يكن ناتجًا عن حركية اقتصادية يمكنها أن تضمن تحسن القدرة الشرائية للمواطنين للأسف، بل هو نتاج سياسات نقدية مرتبطة بتراجع الطلب الداخلي وضعف الاستهلاك، وهو ما قد يكون مؤشرًا على ركود اقتصادي أكثر من كونه علامة على التعافي.

النظر إلى بيانات المعهد الوطني للإحصاء المتعلقة بالطلب الداخلي يكشف أنه تم تحقيق نمو ضعيف قدر بنسبة 0.4 % خلال الربع الأول من عام 2024، مما ساهم بشكل إيجابي بـ 0.45 نقطة مئوية في نسبة النمو الاقتصادي المسجلة، والتي بلغت 0.2 % لذات الفترة. وهذا النمو الضعيف يعكس استمرار ضعف الطلب الداخلي وتأثيره المحدود على تعزيز النمو الاقتصادي.

من جانب آخر، إذا نظرنا إلى الاستثمار، نجد إن بعض المؤشرات تشير إلى ارتفاع الاستثمارات المصرح بها في القطاع الصناعي بنسبة 3.7 %، وهو ما يعكس تحركًا في هذا المجال، لكن يبقى السؤال الأهم: هل تكفي هذه النسبة لإحداث تحول حقيقي في الاقتصاد؟ الاستثمار وحده ليس كافيًا إذا لم يكن موجهًا إلى قطاعات ذات قيمة مضافة عالية قادرة على خلق الثروة وتحقيق الاستدامة. في هذا السياق، يبدو أن قطاع الطاقات المتجددة، أحد أبرز المجالات التي يمكن أن تحمل بوادر تغيير حقيقي، حيث تشهد تونس توجهًا نحو توسيع مشاريع الطاقة الشمسية وزيادة مساهمة الطاقات المتجددة في إنتاج الكهرباء. هذه المشاريع، إذا تم تنفيذها وفق رؤية واضحة، قد تمثل نقطة تحول مهمة، لكنها تظل إلى حد الآن في مرحلة المخططات دون أن تتحول إلى رافعة اقتصادية فعلية.

بعيدًا عن الانطباع الأولي للمؤشرات، تكشف تفاصيلها أن الاقتصاد التونسي لا يزال أمام تحدٍّ كبير يتمثل في الأزمات الهيكلية التي يعاني منها، والتي لا يبدو أننا سنغادر مربعها في ظل غياب رؤية تنموية متكاملة، بدل السياسات الظرفية لمعالجة الأزمات، مما يجعل من الصعب الخروج منها بل حتى منع تفاقمها.

نحن أمام تناقض بين التحسن الذي تعكسه بعض الأرقام في إطار ضيق، وبين واقع الاقتصاد المتأزم الذي يجعل أي تحسن ظرفي ومحدود هامشيًا غير قادر على تغيير الواقع، مما يدفع إلى سؤال مهم: كيف يمكن تحويل هذا التحسن إلى نمو مستدام ينعكس فعليًا على حياة التونسيين؟

الإجابة هنا ليست بالبساطة المتصورة لدى البعض، بل هي رهان على بناء نموذج اقتصادي جديد قادر على خلق الثروة الحقيقية. فالاقتصاد لا يُقاس بنسب التضخم أو النمو فقط، بل بمدى قدرة هذه الأرقام على ترجمتها إلى تحسين مستوى العيش، وزيادة في الإنتاجية، وتحقيق استقلالية اقتصادية حقيقية. وحتى يتحقق ذلك، يبقى الحديث عن التحسن مجرد قراءة جزئية لواقع أكثر تعقيدًا.

مقابل هذه الأرقام التي تعكس تحسنًا طفيفًا، لا تزال المخاطر الكبرى تهدد الاقتصاد التونسي والتوازنات المالية العمومية. أولى هذه المخاطر تتمثل في ارتفاع المديونية، حيث يعتمد الاقتصاد بشكل متزايد على الاقتراض الداخلي والخارجي لتمويل عجز الميزانية.

بدون هذه الخطوة، سنظل أسرى لمتغيرات ظرفية لا نتحكم فيها كليًا، حتى وإن كانت تقدم مؤشرات إيجابية أحيانًا، فهي غير كافية لضمان خروج الاقتصاد من دوامة الأزمات، ما لم يتم وضع استراتيجية متكاملة تجمع بين تحفيز الاستثمار وإصلاح النظام الجبائي وضمان استقرار اجتماعي واقتصادي حقيقي. التحسن الظاهري لا يمكن أن يكون بديلاً عن حلول جذرية تضع الاقتصاد على طريق التنمية المستدامة، بعيدًا عن الحلول الظرفية التي سرعان ما تفقد تأثيرها في مواجهة التحديات العميقة