الحمدُ لله إليه تصير الأمور، وبيدِه تصريفُ الدُّهور، أحمده سبحانه وأشكره، عمَّ الخلائقَ فضلُه وإحسانُه، ووسِع المذنبين عفوُه وغفرانُه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، عظُم شأنه وعزَّ سلطانه.
ولدتك أمك يا ابن آدم باكيًا
والناس حولك يضحكون سرورا
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا
في يوم موتك ضاحكًا مسرورا
وأشهد أنَّ سيِّدنا ونبيَّنا محمَّدًا عبدُ الله ورسوله، المبعوث للثقلين الجِنَّة والنَّاس، والمبرَّأ من العيوب والأدناس، صلى الله وسلم وبارك عليه عددَ النفوس والأنفاس، وعلى آله المطهَّرين وأصحابه البَرَرة الموحِّدين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
عباد اللـه، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الدعوات لأصحابه: ((اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهوِّن به علينا مصائب الدنيا، ومَتِّعْنا بأسماعنا وأبصارنا وقوَّتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تُسلِّط علينا من لا يرحمنا))؛ [الترمذي ح 3502].
ما أكثر الهموم في حياتنا! همَّ الرزق، وهمَّ المنصب، وهمَّ الجاه، وهمَّ الزوجة، وهمَّ الأولاد، وهمَّ الدراسة، وهمَّ المستقبل المجهول، وهمَّ السعادة المفقودة وهمَّ المرض وهمَّ العدو، وغير ذلك من الهموم وغيرها، فإذا كانت هذه هي الهموم التي تسيطر على حياتنا وسببت لنا التعاسة والشقاء وضنك العيش، فكيف نتعامل معها؟ وكيف نتجاوزها ونقلل من آثارها؟ وإذا كانت كل هذه الهموم دنيوية تدور حول الحياة فأين هَمُّ الآخرة؟ وأين نصيبه من هذا الكمِّ الهائل من الهموم؟ وهو الهمُّ الذي تزول به هموم الدنيا، وبه تحل السعادة والطمأنينة والرضا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من جعل الهموم همًّا واحدًا همَّ المعاد كفاه الله همَّ دنياه، ومن تشعَّبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديته هلك))؛ [ابن ماجه، ح 4106]. وفي رواية: ((من كان همُّه الآخرة جمع الله شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت نيَّتُه الدنيا فرَّق الله عليه ضيعته، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأتِهِ من الدنيا إلا ما كتب له))؛ [أحمد، ح 21080]. وفي رواية: ((من جعل الهموم همًّا واحدًا هَمَّ آخرته كفاه الله هَمَّ دنياه، ومن تشعَّبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديتها هلك))؛ [ابن ماجه، ح257].
إن الإسلام دين واقعي، فعندما أمرنا بتذكُّر الآخرة وما فيها لم يغفل واقع الناس وحياتهم ومتطلباتهم وهمومهم في هذه الحياة، فالدنيا لا شك أنها مليئة بالهموم والمتاعب وقد أمرنا بالسعي فيها وتعميرها، وعندما ذَمَّها الإسلام إنما كان الذم تحذيرًا للإنسان أن ينشغل فيها عن الآخرة؛ فينسى طاعة ربه، وينسى رسالته في تعمير الأرض ودعوة الناس إلى دين الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونشر الفضيلة ومحاربة الرذيلة، وتقوية روابط المجتمع، وتقديم النفع، وكفِّ الأذى، وهذا ما فهمه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن سار على نهجهم، فما تركوا الدنيا؛ بل عمَّروها، وأسسوا دولة وبنوا حضارةً عظيمةً، وقدَّموا خدماتهم للبشرية في شتى مجالات الحياة، ومع ذلك لم تكن الدنيا أكبرَ همِّهم بل كانت الآخرة؛ هذا عمر بن عبدالعزيز الخليفة العادل الذي كان ملكه يمتدُّ في ثلاث قارات، من الصين شرقًا إلى حدود فرنسا غربًا، ومع ذلك كان على وجهه خطان أسودان من كثرة البكاء والتفكُّر في الآخرة، لما حضرته الوفاة قال لبنيه وكان مسلمة بن عبدالملك حاضرًا: يا بني، إني قد تركت لكم خيرًا كثيرًا، لا تمرُّون بأحد من المسلمين وأهل ذمتهم إلا رأوا لكم حقًّا، يا بني، إني قد خيرت بين أمرين؛ إما أن تستغنوا وأدخل النار، أو تفتقروا وأدخل الجنة، فأرى أن تفتقروا إلى ذلك أحب إليَّ، قوموا عصمكم الله… قوموا رزقكم الله… قوموا عني، قال مسلمة: فقمنا وتركناه، وتنحينا عنه، وسمعناه يُردِّد قوله تعالى: ﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [القصص: 83]، فدخلنا عليه فإذا هو قد مات… واليوم لا يمتلك أحدنا مبلغًا من المال أو قطعة أرض أو يعين في منصب أو وظيفة أو يكثر أتباعه وأولاده أو يرى في نفسه صحة وعافية، فإذا به يتكبَّر ويتجبَّر وينسى آخرته؛ فيظلم ويعتدي ويعصي ربَّه ليلًا ونهارًا!
لقد كان هَمُّ الآخرة في حياة الصالحين أعظمَ من كل شيء؛ بل ربما تسابقوا وتنافسوا عليه… هذا سعد بن خزيمة بن الحارث رضي الله تعالى عنه لما أراد أن يخرج إلى غزوة بدر جاءه والده خزيمة بن الحارث قال: يا سعد، ألست بوالدك، قال: نعم، قال: اجلس مع أخواتك في البيت وأخرج أنا، قال: يا أبي، لو كان غير الجنة آثرتك، إن الأنصار يعلمون أنه ما من أهل بيت في المدينة أبر فيها ولد في والده مني، فاستهما.. فوقعت القرعة على سعد ليخرج ويقتل فيها شهيدًا رضي الله تعالى عنه… وبعد عام ينطلق في أجواء المدينة صوت منادي رسول الله صلوات الله وسلامه عليه يدعو المؤمنين للنفرة إلى أُحُد فيسارع خيثمة يلبي النداء، فيتلَقَّاه الرسول القائد ببسمة مشفقة، ولكأن خيثمة يدرك ما في نفس رسوله القائد من إشفاق على شيخوخته وضعفه فيقول: يا رسول الله، والله لقد كنت حريصًا أن أنفر معك إلى بَدْر؛ لكن ولدي سعدًا فاز فيها من دوني فرزقه الله الشهادة والجنة، ولقد رأيته البارحة في نومي وهو على أحسن صورة يسرح في ثمار الجنة وأنهارها ويلح عليَّ يقول: يا أبتاه، الحَقْ بنا ترافقنا في الجنة، فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقًّا، وإني يا رسول الله، قد أصبحت مشتاقًا إلى مرافقة سعد في الجنة، وقد كبرت سِنِّي، ورقَّ عظمي، وأحببت لقاء ربي، فخَلِّ بيني وبين أُحُد، وادْعُ الله لي أن يرزقني الله الشهادة فأدخل الجنة وألحق بولدي سعد… ويرق قلب الرسول القائد لخيثمة فيدعو له بما أراد، وحين احتدمت المعركة كان خيثمة بن الحارث يصول ويجول يثخن بالكافرين الجراح ويثخنون به الجراح حتى تغلبه الجراح فيخر شهيدًا في سبيل الله، ويلحق بإذن الله بولده سعد في الجنة، يسرح في ثمارها وأنهارها، رضي الله عنهم أجمعين.
أيها المؤمنون، إن الدنيا ليست بدار مقام والناس يرحلون كل يوم إلى الآخرة، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “ارتحلت الدنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل”؛ [رواه البخاري في باب: الأمل وطوله]… ومن أراد أن يعرف الهمَّ الأكبر الذي يشغله فلينظر في أحواله: ما الذي يفكر فيه قبل نومه أو في صلاته؟ ما الذي يفرحه ويحزنه؟ وما الذي يغضبه؟ما هي أمنياته؟ وبماذا يدعو الله في سجوده؟ ما الذي يهمه في تجارته: الربح بأي طريقة ووسيلة أم الربح الحلال؟ هل يحرص على تعليم أولاده قيم الدين وأخلاقه أم أن ذلك لا يدخل في حساباته ولا في اهتماماته؟ وهل يشعر بأن الوظيفة أو المنصب الذي تولَّاه أمانة يجب أن يؤديها كاملة أو أنه يشعر بأن ذلك يعتبر مغنمًا لا يؤدي حقَّه؟ هل يندم ويتأثر إذا فاتته طاعة؟ وهل يستفيد من مواسم الطاعات والنفحات ويستبشر بها؛ كرمضان وذي الحجة وعرفة ومحرم ويوم الجمعة؟ هل يتحرَّى الحلال في طعامه وشرابه؟ هل قلبه معلق بالمساجد والصلوات وقراءة القرآن؟ وهل يبرُّ والديه، ويصِل رحمه، ويحسن إلى جاره؟ وهل يحب للمسلمين ما يحب لنفسه؟ وغير ذلك من الأمور.
إن التبصُّر في ذلك كله يدلك على الهمِّ الأول أو الأكبر في حياتك، فتعرف حينذاك أنك ممن أهمته دنياه أو آخرته قال تعالى: ﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 9]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ﴾ [المؤمنون: 57- 61]، دخل عمر الفاروق رضي الله على النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم على حصير قد أثَّر في جنبه الشريف، فبكى عمر وقال: يا رسول الله، كسرى وقيصر وهم على كفر ينامون على الحرير والديباج وأحلى الفُرُش وأنت رسول الله وحبيب الله وأول من تفتح لك الجنة وتنام على الحصير! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أفي شك أنت يا بن الخطاب؟))، قال: لا يا رسول الله، قال: ((أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا، أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة))؛ إسناده صحيح.
The post حديث الجمعة : كيف يكفيك الله هَمَّ دنياك؟ appeared first on موقع الصحفيين التونسيين بصفاقس.