الكويت في الأول من فبراير /وام/ تختبئ على أرض دولة الكويت وتحت رمالها، قصص وأسرار حضارات تمتد جذورها إلى آلاف السينين، تشهد على إرث تاريخي وحضاري زاخر جعل من هذا البلد مفتاحا ذهبيا لفهم تاريخ المنطقة وربط حاضرها بماضيها.

وتحتضن الكويت سجلا غنيا بالاكتشافات الأثرية للحضارات القديمة التي تعاقبت على استيطان أرضها على مدى التاريخ، بما يعكس دورها المحوري وإستراتيجية موقعها الجغرافي ويجسد مركزيتها في التواصل بين الحضارات وتبادل الثقافات.

‎ويتناول هذا التقرير الذي تنشره "وام" بالتعاون مع اتحاد وكالات الأنباء العربية (فانا)، والذي أعدته وكالة الأنباء الكويتية، ضمن نشرتها الثقافية، البدايات الأولى للبعثات الأثرية في الكويت التي تعود إلى العام 1958 الذي شكل علامة فارقة في انطلاق الاستكشافات الأثرية عبر البعثة الدنماركية التي شدت رحالها إلى الكويت بعد تلقيها دعوة من الحكومة الكويتية في العام 1957؛ إذ توالت منذ ذلك التاريخ برامج المسح والتنقيب الأثري على أرض الكويت وجزرها لتضع كنوز اكتشافاتها المتلاحقة على الخارطة الحضارية للمنطقة وتقدم دليلا إرشاديا لثقافات ومدن ومجتمعات منذ بدء استقرار الإنسان على أرضها في نهاية الألف السادس قبل الميلاد.

وتعد جزيرة فيلكا التي يعتقد أنها كانت تحمل اسم (أجاروم) قديما من أبرز المواقع الأثرية في البلاد، حيث ارتبطت ارتباطا وثيقا بحضارة دلمون القديمة ولعبت دورا حضاريا محوريا في تلك الفترة بسبب وقوعها على الطريق التجاري البحري العالمي الذي يربط حضارات بلاد الرافدين وحضارات جنوب شبه الجزيرة العربية.

وتكشف الجزيرة الممتدة على مسافة 12 كيلو طولا و6 كيلومترات عرضا، عن مستوطنات متكاملة ترجع إلى الفترة المبكرة من الألف الثاني قبل الميلاد تشمل دورا سكنية ومعبدا وموقع قصر الحاكم، علاوة على مستوطنة أخرى تطل على ميناء طبيعي يعتقد أنه الميناء القديم للجزيرة.

وشهدت فيلكا مع مرور الزمن، تقلبات في دورها الحضاري حيث تعرضت للتأثير الهلنستي بعد سقوط حضارة دلمون؛ إذ كشفت أعمال التنقيب الأثري عددا من المستوطنات التي ترجع إلى تلك الفترة كالقلعة الهلنستية الفريدة في منطقة الخليج العربي وما تضمه من أبراج مراقبة ومعابد ومبان سكنية إضافة إلى خندق يحيط بها من الخارج.

ويعود أول الآثار التي اكتشفت على الجزيرة إلى عام 1937 وهو عبارة عن قطعة من الحجر كتب عليه باللغة اليونانية (سوتيلس المواطن الأثيني والجنود قدموا هذا إلى زوس سوتر المخلص وإلى بوزيدون وإلى آرتميس المخلصة).

أما منطقة الصبية الواقعة في شمال جون الكويت، وتحديدا في شبه جزيرة طبيج، فقد أصبحت محط أنظار بعثات التنقيب الأثرية العالمية حيث كشفت عن حضارات موغلة في القدم ومواقع أثرية تعود لحضارة العبيد خلال الفترة الممتدة من 4500 إلى 5500 قبل الميلاد.

وأظهرت هذه المواقع مستوطنات يتكون كل منها من عدد من الحجرات المتجاورة كما تم العثور على مدافن ركامية وأدوات حجرية تعود إلى العصر الحجري الحديث (النيوليثي) تشمل رؤوس السهام والفؤوس الحجرية.

وتشير اللقى الأثرية التي عثر عليها في هذه المواقع إلى نشاط بحري كبير مع بعض المراكز الحضارية القريبة وهو ما دل عليه العثور على نموذج من الطين لأقدم قارب بحري.

‎ كما أظهر التنقيب في منطقة تل البهيته الواقعة في مدينة الكويت اكتشافات مهمة لمستوطنات يبلغ عمرها نحو ثلاثة قرون تتمثل في مجموعة من الأحياء القديمة وتحوي آثارا نادرة منها عملات وبقايا منازل وأدوات فخارية علاوة على آثار السور الثاني للكويت الذي يدل على فترة تأسيس المدينة في القرون الفائتة.

‎وكذلك كشفت منطقة كاظمة عن بقايا مستوطنات وأوان فخارية وعملات من العصرين الأموي والعباسي تعود إلى (القرنين الثامن والتاسع الميلادي) ما يؤكد دورها كمحطة تجارية هامة في تلك الفترة علاوة على ما تشير إليه الدراسات التاريخية بأن المنطقة شهدت معركة ذات السلاسل الفاصلة بين المسلمين والفرس عام 12 هجرية.

وتشير تقارير المسح الأثري إلى انتشار مراكز حضارية ترجع إلى فترة التاريخ الإسلامي في وادي الباطن الذي يعتبر جزءا من طريق الحج البصري وكذلك منطقة أم العيش وكاظمة إضافة إلى جزيرة عكاز.

كما تم اكتشاف بقايا مبان وأسوار في مناطق متفرقة من الكويت مثل منطقة الجهراء، ما يعكس حياة المجتمعات القديمة وأنشطتها التجارية والزراعية.

ورغم مضي أكثر من ستة عقود على التنقيب الأثري في الكويت، لا تزال الأرض تنبض بالاكتشافات الفريدة التي تضيف حقائق جديدة وأبعادا أعمق عن امتداداتها الحضارية والثقافية على مدى العصور.

‎ وفي هذا الإطار قال أمين عام المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب المساعد لقطاع الآثار والمتاحف بالتكليف، محمد بن رضا، إن موسم التنقيب الأثري لعام 2024 شهد اكتشاف مواقع أثرية جديدة في مناطق كاظمة والصبية وجزيرة فيلكا.

وأضاف أن الفريق الكويتي الدنماركي (متحف موسغارد) عثر على معبد من العصر البرونزي شبه كامل يعود لحضارة دلمون، مؤكدا أن هذا الاكتشاف يضيف حقائق جديدة حول استيطان الإنسان على أرض جزيرة فيلكا قبل 4000 سنة ويعطي أهمية إضافية للجزيرة ودورها الثقافي والتجاري والاجتماعي في منطقة الخليج العربي قديما.

‎وبين أن فريق التنقيب البولندي يعمل حاليا في موقع (بحره 1) في منطقة الصبية الذي يحتضن مستوطنة يعود تاريخها إلى 5700 قبل الميلاد وتعرف بأنها أقدم وأكبر مستوطنة معروفة في شبه الجزيرة العربية من فترة العبيد.

وأوضح أن الفريق الكويتي البولندي، أعلن مؤخرا عن اكتشاف فناء أو ورشة لصناعة الحلي والزينة المصنوعة من الأصداف؛ حيث عثر على العديد منها أمام مساكن "ثقافة العبيد" التي تم التنقيب عنها في مواسم مختلفة، بالإضافة إلى العديد من الفخاريات التي يتجاوز عمرها 7000 سنة.

وأشار بن رضا، إلى أن من أهم الاكتشافات إثارة للإعجاب في موسم التنقيب الأثري 2024 اكتشاف رأس صغير لآدمي مصنوع من الطين، وهو يعتبر الأول من نوعه في منطقة الخليج العربي.

وذكر أن قطاع الآثار والمتاحف في المجلس الوطني لا زال يشرف على بعثات عالمية للتنقيب عن آثار في المواقع الأثرية، مثل البعثة الإيطالية في موقع القرينية، والبعثتين الفرنسية والإيطالية في موقع القصور الذي يعود إلى القرن 8-9 الميلادي.

وعن الأهمية التاريخية لجزيرة فيلكا، يؤكد مدير البعثة الأثرية الدنماركية إلى الكويت الدكتور ستيفن لورسن، أنها شكلت مركزا حيويا للتجارة بين بابل القديمة والمحيط الهندي؛ حيث أنشأت مملكة دلمون خلال الألفية الثالثة قبل الميلاد ميناء مزدحما والعديد من المعابد في الجزيرة.

وقال الدكتور ستيفن، إن الاكتشاف الاستثنائي الأخير لفريق التنقيب المتمثل في مخطط شبه كامل لمعبد من العصر البرونزي يبلغ قياسه 11 × 11 مترا يعد معلما مهما في فهم الممارسات الدينية لحضارة ومملكة دلمون، مؤكدا أن أعمال التنقيب المستمرة تعد بالمزيد من الرؤى حول تاريخ الكويت في فترة ما قبل التاريخ.

ولفت إلى إلان فريق الكويت الدنماركي (موسجارد) أخيرا، الانتهاء بنجاح من موسم التنقيب لعام 2024 في جزيرة فيلكا، مشيرا إلى أنه استمرارا لعمل الفريق خلال مواسم التنقيب 2022-2023، والذي ركز على المنطقة الواقعة شرق "قصر" ومعبد دلمون المبكر في تلة العصر البرونزي "F6".

وضمن جهود الدولة لحماية الآثار، أعلن أستاذ الآثار والأنثروبولوجيا في جامعة الكويت ومستشار المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب لشؤون الآثار والمتاحف، الدكتور حسن أشكناني، أن فريقا فرنسيا سيصل الكويت قريبا لتنفيذ ترميمات في موقع القلعة الهلنستية (تل سعيد) وحماية البقايا الأثرية المكتشفة في السنوات السابقة.

وقال أشكناني، إن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب يتعاون مع بعثة جامعة روما لا سابينزا الإيطالية لتنفيذ مسح أثرى في مناطق شمال جون الكويت، مشيرا إلى استضافة الكويت وفدا من الوكالة الدولية للطاقة الذرية بالتعاون مع معهد الكويت للأبحاث العلمية وجامعة الكويت؛ لاستخدام تقنيات مختبرية متطورة لدراسة آثار الكويت علاوة على إقامة ورشة ضخمة لأعضاء لجنة التراث العالمي للعمل على وضع معايير تتناسب مع قيم اليونيسكو لحماية وتطوير المواقع الأثرية في جزيرة فيلكا.

ولتعزيز نتائج الاكتشافات الأثرية علميا أشرك المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الآونة الأخيرة عددا من القطاعات في التعاون مع البعثات الأثرية في الكويت؛ لتقديم تفسيرات وإجابات علمية عن مصادر المواد الأصلية المستخدمة في المواقع الأثرية المكتشفة وأنواع النباتات والبيئة القديمة.

ويعمل المجلس ضمن إستراتيجية تكاملية بدأت مع وصول أول بعثة أثرية إلى الكويت في عام 1958 واستمرت مع البعثة الأمريكية التي انطلقت أعمالها عام 1972 ثم البعثة الإيطالية عام 1976 والفرنسية عام 1983 و1993 وصولا إلى البعثة البريطانية عام 1999 والسلوفاكية عام 2003.

وفي ديسمبر من العام 1957 افتتحت البلاد متحف الكويت الوطني في قصر الشيخ عبد الله الجابر الصباح بمنطقة دسمان، قبل أن تنقل محتوياته في عام 1976 إلى بيت البدر بوصفه أحد بيوت الكويت التقليدية القديمة تمهيدا لإقامة المتحف الجديد الذي افتتح عام 1983 ونقلت إليه المقتنيات الأثرية القديمة والإسلامية والشعبية ليصبح مركزا حضاريا وثقافيا.

كما تمثل دار الآثار الإسلامية التي أسست عام 1983 مركزا لنشر الوعي الآثاري والحضاري حيث تضم ما يقارب 30 ألف تحفة آثارية من المقتنيات الخاصة والتي تعود ملكيتها إلى الشيخ ناصر صباح الأحمد الصباح (طيب الله ثراه) وزوجته الشيخة حصة صباح السالم، المشرف العام للدار.

وتولي دولة الكويت عناية بالغة بعلم الآثار وتوثيق المواقع الأثرية؛ حيث عهد قانون الآثار الكويتي الصادر بالمرسوم الأميري رقم 1 لعام 1960 وتعديلاته اللاحقة إلى المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب مهمة حماية الآثار وتسجيلها ونظم طرق المحافظة عليها.

وعمدت البلاد إلى تعزيز إسهاماتها الخاصة بمجال علم الآثار على يد مجموعة من علماء الآثار الذين أثروا خزينتها بكثير من الدراسات المتخصصة في حقل البحوث الأثرية والعديد من المؤلفات التي حوت خلاصات حول تاريخ الكويت ومنطقة الخليج العربي.

كما تتبنى الدولة قوانين صارمة لحماية الآثار من العبث أو التدمير؛ إذ تجرم أي أعمال تخريبية أو تهريب للقطع الأثرية وتضع عقوبات رادعة لضمان الحفاظ على التراث الثقافي.
وتمثل آثار الكويت شهادة حية على تطور الحضارة الإنسانية في المنطقة وبوابة مفتوحة على عوالم سابقة ومصدر جذب دائم للباحثين والمؤرخين وقبلة للسائحين، علاوة على كونها مرآة عاكسة لهوية الدولة وجذورها التاريخية والثقافية على مر العصور، لا سيما أنها تمثل أقدم مناطق الشرق القديم التي استوطنها الإنسان.