بين تعقيدات النزاعات الاقتصادية وتشابكات السياسة الدولية، تبرز الثقافة والفنون كصوت هادئ لكنه مؤثر، يُعيد صياغة ملامح الدول بأسلوب ناعم وفعّال. إنها ليست مجرد مشاهد احتفالية تُبهج اللحظة، بل جسور متينة للتواصل الإنساني تُلغي المسافات وتُوحّد الاختلافات، لتُضيء مساحات من التفاهم والقيم المشتركة. وهنا تُطلّ “الجلوة البحرينية”، هذا الطقس التراثي العريق، كأكثر من مجرد تقليد احتفالي، بل كـأداة دبلوماسية ناعمة تحمل هوية البحرين وتُقدّمها للعالم برونق يُجسّد أصالة الماضي وجاذبية الحاضر. حضرتُ حفل استقبال سفارة مملكة البحرين في ماليزيا بمناسبة اليوم الوطني الثالث والخمسين للملكة والذكرى الخامسة والعشرين لجلوس جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة، ملك مملكة البحرين  على العرش، حيث تجلّت مظاهر الاحتفال في أبهى صورها، لتُبرز الهوية البحرينية برونقها المميز. لقد شكّل أداء الجلوة خلال هذه المناسبة حدثًا استثنائيًا، إذ انصهرت في هذا الطقس البهيج أصالة التراث، حيوية الشباب، ورصانة الدبلوماسية الرسمية في لوحة فنية متكاملة. كانت الجلوة أكثر من مجرد عرض؛ كانت رمزًا يروي قصة البحرين، حيث التقت عراقة الماضي مع طموحات المستقبل، لتُقدّم للعالم رسالة حضارية عنوانها الفرح، التواصل، والتجدد. الطالبات البحرينيات: سفراء شباب للقوة الناعمة تُعد الجلوة من أعرق الطقوس البحرينية التي تُمارس في احتفالات الزواج، حيث تُحيط مجموعة من النسوة بالعروس ويرفعن قطعة قماش خضراء فوق رأسها بتناغم يعكس الفرحة الجماعية والدعاء بالتوفيق والبركة. هذا الطقس الذي يختزل قيم التضامن والاحتفال بالحياة، يعبر عن وحدة الجسد الاجتماعي البحريني وارتباطه بتراثه الأصيل. وفي احتفالية اليوم الوطني البحريني التي أُقيمت في فندق جيه دبليو ماريوت كوالالمبور، تحوّلت الجلوة إلى عرض نابض بالحياة، أبدعت في أدائه مجموعة من الطالبات البحرينيات المقيمات في ماليزيا. هذا الأداء لم يكن مجرد نقل لتراث قديم؛ بل كان تجديدًا للهوية البحرينية في قالب مُعاصر، ورسالة مباشرة إلى الجمهور الماليزي عن روح البحرين وثقافتها الغنية. لعبت الطالبات البحرينيات دورًا بارزًا في نقل صورة حية عن بلادهن من خلال أدائهن المُتقن والمليء بالحماس. لم يكن الحضور مجرد إظهار للمهارة الفنية، بل كان بمثابة تمثيل رمزي لدور الشباب في حمل التراث الوطني إلى المنصات العالمية. في هذا السياق، تُظهر نظرية جوزيف ناي حول القوة الناعمة كيف أن الدول الصغيرة يمكنها التأثير عبر أدوات الجذب الثقافي، وأداء الطالبات هو خير مثال على ذلك. فالهوية البحرينية قدمت هنا من خلال وجوه شابة تعكس الانفتاح، الحماسة والأصالة، ليؤكدن أن البحرين ليست مجرد تاريخ محفوظ، بل مستقبل نابض يتفاعل مع العالم. الدور المحوري لسفارة البحرين بقيادة السفير لم تكن هذه الاحتفالية لتُحقق هذا النجاح دون جهود سفارة مملكة البحرين في ماليزيا بقيادة أول سفير للملكة لدى كوالالمبور الدكتور وليد خليفة المانع. استطاع الدكتور المانع وفريقه بمهارتهم الدبلوماسية تحويل احتفالية اليوم الوطني إلى منصة للحوار الثقافي بين البحرين وماليزيا، من خلال دمج التراث البحريني الأصيل في سياق عالمي. لقد قدمت السفارة الدعم الكامل لتنظيم هذا الحدث المتميز، بدءًا من توفير البيئة الملائمة لأداء الجلوة وحتى تسليط الضوء على دور الشباب البحريني في تمثيل وطنهم. كما عكست جهود الدكتور وليد المانع قدرة البحرين على استخدام الثقافة كأداة للتقارب بين الشعوب وتعزيز العلاقات الثنائية بطرق أكثر عمقًا وتأثيرًا. السفير المانع لم يكتفِ بالدور التقليدي للدبلوماسية، بل حرص على إبراز الهوية البحرينية كقوة حضارية من خلال ربط التراث بالمستقبل. فالاحتفالية لم تكن مجرد حدث بروتوكولي، بل كانت رسالة حضارية أكدت أن البحرين تُدرك جيدًا أهمية القوة الناعمة في تعزيز مكانتها الدولية. ماليزيا: بيئة خصبة للتنوع الثقافي اختيار الجلوة لعرضها في ماليزيا يعكس ذكاءً دبلوماسيًا وثقافيًا، إذ تُعد ماليزيا واحدة من أكثر الدول احتفاءً بالتنوع الثقافي والتعدد العرقي. يمتزج في نسيجها الاجتماعي تراث الملايو، الصينيين، الهنود والعرب، مما يجعلها تربة خصبة لتفاعل الثقافات المختلفة. وفي هذه البيئة المنفتحة، وجد الأداء البحريني تفاعلًا إيجابيًا كبيرًا من الجمهور الماليزي. استشعر الحضور أصالة الطقس وبساطته، ما جعلهم يربطون بين ثقافتهم الخاصة والتقاليد البحرينية. وهنا تكمن أهمية التراث المشترك كقوة ناعمة قادرة على التقريب بين الشعوب. البعد الاقتصادي والدبلوماسي للثقافة تعمل الدبلوماسية الثقافية جنبًا إلى جنب مع العلاقات الاقتصادية والسياسية لتُعزز من الروابط بين الدول. تشير الإحصائيات إلى أن حجم التبادل التجاري بين البحرين وماليزيا بلغ 263 مليون دولار أمريكي في عام 2023، ما يعكس متانة العلاقات بين البلدين. لكن العلاقات لا تكتمل دون البعد الإنساني والثقافي، وهو ما حققته احتفالية الجلوة. تواجد البحرينيين في ماليزيا، سواء من خلال الطلاب أو المهنيين، يُسهم في تبادل الأفكار والمهارات، ويمهّد لمزيد من التعاون العلمي والثقافي. فالطلاب البحرينيون، وعلى رأسهم الطالبات اللواتي شاركن في أداء الجلوة، يجسدون نموذجًا مُشرقًا للتفاعل الإنساني والمعرفي بين الشعبين. إن مشاركتهم لا تُبرز فقط التمسك بالهوية الثقافية، بل تُعزز العلاقات التعليمية من خلال نقل المعرفة والخبرات بين المؤسسات الأكاديمية في البحرين وماليزيا. كذلك، يُثري التفاعل الثقافي بين البلدين بيئة اقتصادية أكثر تكاملًا، حيث يُسهم تعزيز العلاقات التعليمية في تطوير رأس المال البشري، وهو ما يُعتبر ركيزة أساسية للنمو الاقتصادي. وعندما تتلاقى التقاليد الثقافية مثل الجلوة مع المبادرات التعليمية والشراكات الاقتصادية، تتحول العلاقات الثنائية إلى نموذج متكامل يربط الماضي بالحاضر، ويُمهّد لمستقبل مشترك تتقاطع فيه المصالح التجارية، القيم الثقافية، والأهداف التعليمية لتحقيق تنمية مستدامة ومتوازنة بين البلدين. الحفاظ على التراث وتجديده حين ارتفعت قطعة القماش الخضراء في كوالالمبور، كانت ترتفع معها أصوات وأحلام حملت البحرين إلى قلوب الجمهور الماليزي. لم يكن هذا الطقس مجرد احتفال؛ بل تأكيد رمزي على قدرة التراث البحريني على خلق حوار حضاري عالمي. الجلوة البحرينية، بما تمثله من أصالة وعمق ثقافي، استطاعت أن تجسد لغةً تخاطب الشعوب وتبني جسورًا من التواصل بين الثقافات المختلفة. جهود الطالبات البحرينيات، بدعم من سفارة البحرين بقيادة الدكتور وليد خليفة المانع، قدمت نموذجًا للدبلوماسية الثقافية التي تجمع بين الحداثة والأصالة. مثل هذه الفعاليات تؤكد أن التراث حين يُحمل بأيدي الشباب ويُعرض على منصات دولية، يتحول إلى قوة ناعمة تُلهم العالم. وهنا يبرز الدور الأساسي للمؤسسات الرسمية والجاليات البحرينية حول العالم في دعم المبادرات التي تسعى إلى الحفاظ على الهوية الثقافية وتعزيز حضورها عالميًا. ورغم النجاح الكبير الذي حققته الجلوة في ماليزيا، يبقى التحدي الأكبر هو ضمان استمرار هذا التراث وتجديده. فالتراث ليس موروثًا ساكنًا؛ بل كيان حي يحتاج إلى التطوير المستمر من خلال دمجه في المناهج التعليمية والفعاليات الشبابية. دعم السفارات لهذه الجهود يسهم في تمكين الأجيال الجديدة من حمل هذا التراث إلى المحافل الدولية، وإبراز قيمته كجسر للتواصل الحضاري. إن الجلوة البحرينية تُذكّر بأن التقاليد ليست قيدًا للماضي، بل هي نافذة على المستقبل. الحفاظ على هذا التراث وتعزيزه يضمن بقاءه قوةً ملهمة تعكس الهوية البحرينية وتُعمّق الروابط الإنسانية. حين يُعرض التراث بأسلوب حديث ومتجدد، يتحول إلى رسالة حضارية تعبر الحدود وتُوحّد القلوب في إطار من المحبة والتفاهم.