في 2019، كتب الباحثان المرموقان هنري فاريل وآبراهم نيومان ورقة مفصلية أثارت انتباه الأكاديميين وصناع السياسات لمصطلح استراتيجي مهم، وهو: "عسكرة الاعتماد المتبادل" Waponized Interdepdence.
معنى المصطلح هو أن العولمة الاقتصادية تعتمد في جوهرها على عدد قليل جداً من نقاط الاختناق، التي يسهل على الولايات المتحدة الأميركية استخدامها كأدوات إخضاع ضد خصومها أو حتى حلفائها كيفما شاءت.
فصناعة أشباه الموصلات كلها ستنهار إن توقفت شركة "TSMC" التايوانية عن العمل. والنظام المالي العالمي كله لن يصمد دقائق دون نظام مقاصة المدفوعات بين البنوك في نيويورك. كما أن الغالبية العظمى من مواقع شبكة الإنترنت ستتوقف عن العمل إن خرجت القليل من مراكز بيانات المعلومات عن الخدمة أو الكابلات التي تصلها بنقاط الاتصال الرئيسية في فرجينيا.
وبعد عدة سنوات من نشر هذه الورقة اكتشفت الباحثان مفاجأة غير سارة؛ وهي أن ورقتهما كان لها شعبية كبيرة بين بعض أكبر صانعي القرار في إدارة ترامب، الذين لم يقرأوها كتحذير من تآكل الثقة في الهيمنة الأميركية، وإنما بوصفها كتالوج سياسات مفيدة، إذ كانت الورقة تُستخدم في النقاش حول كيفية الاستغلال الأمثل للتوسع في السيطرة الأميركية على البنية التحتية التكنولوجية والاقتصادية، وأمثلة الضغط على هذه النقاط.
اليوم، نرى ترامب يستهل فترته الرئاسية الثانية، من قبل أن تبدأ رسمياً، باستهداف نقطة اختناق يرغب في توسيع الهيمنة الأميركية عليها، وهي قناة بنما ذات الأهمية الكبرى في التجارة الدولية.
انتظروا سنة من العقوبات التجارية الخانقة على كل من تصنفهم الولايات المتحدة أعداء، وابتكارات جديدة في الهندسة المالية تزيد من اليد الممتدة للخزانة الأميركية بكل أنحاء النظام المالي العالمي، وعقوبات تهدد بشل سلاسل إنتاج التكنولوجيات المتقدمة، لضمان الحصار المستمر ضد الشركات الصينية الكبرى.
وحذر جارون لانير في كتابه "فجر كل شيء جديد" من خطر سيطرة شركات قليلة جداً مثل "أمازون" و"جوجل" على سير المعلومات في أسس نظام السوق الرأسمالي. وكان لانير أول من مبتكر مصطلح "الواقع الافتراضي" Virtual Reality))، كما كان له السبق في ثمانينيات القرن الماضي بتأسيس أول شركة ناشئة في هذا المجال على الإطلاق، والتي كانت واحدة من أوائل شركات التقنية التي تأسست بتمويل رأس المال الجريء.
ذكر لانير في كتابه المنشور عام 2017، أن أساس نجاح التنافس الرأسمالي هو تباين حجم ونوعية المعلومات بين المشاركين في السوق، ولكن تركز كل المعلومات في يد قلة محدودة من كبار الشركات يهدد بانهيار المنافسة، ضارباً المثال بـ"أمازون" وسطوتها على صغار التجار، وقدرتها على استنساخ منتجاتهم ومنافستهم أو حتى طردهم كلية من منصاتها بشروط مجحفة.
وعام 2023، نشر يانيس فاروفاكيس، وزير مالية اليونان الأسبق، كتابه "الإقطاع التقني" الذي أعلن فيه أن السوق الرأسمالية انهارت بالفعل، شارحاً أن شركات معدودة على الأصابع، مثل "ميتا" و"ألفابت"، تحتكر البنية التحتية للتكنولوجيا، من مراكز البيانات الضرورية للحوسبة السحابية، وتأسرهم بلوغاريتمات تدفعهم للإدمان على مواقعها، فتستحوذ على اهتمام أغلب سكان كوكب الأرض المتصلين على الإنترنت، وبذلك تجبر الجميع بقوة الأمر الواقع على استئجار بنيتهم التحتية للبقاء والاستمرار، في علاقة أشبه بتلك التي تربط مُلاك الأراضي بالمزارعين في العصور الوسطى. وهكذا توصل اليساري الماركسي فاروفاكيس لاستنتاج يتطابق مع لانير، رائد الأعمال الذي ينتمي للجيل الأول مؤسسي وادي السيليكون.
لا يمكن تجاهل حجم الاهتمام الذي حظي به الذكاء الاصطناعي خلال 2024، ومن أبرز نماذج السوق المجسدة لديناميكية القطاع سهم "إنفيديا" الذي ارتفع بنسبة 173.5%.
عام 2024 كان تطبيقاً عملياً لهذه السطوة غير المسبوقة للاعبين قلائل على مصير التكنولوجيا. رأينا تطورات مذهلة في مجال الذكاء الاصطناعي، لكن لم يصاحبها الانتعاش المتوقع بظهور مئات المبتكرين الجدد القادرين على المنافسة الحقيقية، والراغبين في تحدي الكبار وهز عروشهم. فالغالبية الكبرى من الشركات الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي إما خرجت بالفعل من السوق، أو تبحث عن مشترٍ ينقذها من الإفلاس. حين استقال موظف في "جوجل" لتأسيس شركته الخاصة، وأحست "ألفابت" بأنه يشكل تهديداً حقيقياً لم تتردد في إصلاح خطئها والاستحواذ على شركته (Character.ai) بما يقارب 3 مليارات دولار.
شتان بين موجة الفوضى المبدعة التي صاحبت ظهور الإنترنت في التسعينيات، والأخبار الشركاتية المملة التي تصاحب تطورات الذكاء الاصطناعي اليوم. لا تتوقعوا سطوع أسماء جديدة مبهرة في عالم التقنية خلال 2025، وانتظروا المزيد من تصريحات إيلون ماسك المستفزة وحلقات جديدة من التلاسن مع سام ألتمان.
حاول الرئيس الأسبق باراك أوباما، دون جدوى، أن يحد من نفوذ شركات الملكية الخاصة "Private Equity"، والتي حذر منتقدوها من أن ازدياد سلطتها يسمح لها بفرض شروطها الخاصة على قطاعات اقتصادية بأكملها، من العيادات البيطرية إلى السجون، ومن الائتمان الخاص إلى العقارات التجارية. وحين جاء ترامب، ألغى المحاذير والقواعد التنظيمية القليلة التي نجح سلفه في فرضها.
هذه الشركات لا تخضع لقواعد الشفافية المحاسبية والرقابة التي تخضع لها الشركات المدرجة في الأسواق المالية، ما يسمح لها بحرية أكبر في لي عنق القوانين والعمل في الظل بعيداً عن أعين الإعلام والجمعيات العمومية لحملة الأسهم. والآن، تنتظر هذه الشركات بفارغ الصبر وصول ترامب لسدة الرئاسة، أملاً في أن يطيح بآخر القواعد التنظيمية لعملها، ويسمح لها بالوصول إلى أموال صناديق التقاعد ذات المحافظ التريليونية، وهي الصناديق التي طالما التزمت عادة باستراتيجيات استثمارية محافظة وتقليدية.
إن تضاعف رؤوس أموال شركات الملكية الخاصة، وانطلاقتها المتوقعة في العام المقبل سيدفعها لمزيد من التنويع والتوسع في قطاعات جديدة وفتح شهيتها للمغامرة، ما يوفر بدوره فرصاً تمويلية أكبر للشركات الناشئة، ويقلل من احتياجها للطرح العام. هذا بدوره يقلل من فرص المستثمرين الأفراد من الوصول إلى فرص استثمارية جديدة ذات قيمة، ويزيد من استئثار طبقة الـ1% بالنصيب الأكبر من الكعكة، ولا يترك للعوام سوى أقل الفتات.