حين رفض قسم العلاج في الخارج بوزارة الصحة، طلبي في التكفل بعلاجي من مرض نادر، أصبحت في موقف لا أحسد عليه، فحياتي كانت مهددة ومصيري مجهول، فلا أستطيع تحمل تكاليف العلاج باهظة الثمن، ولا يمكنني الاستمرار بالوضع آنذاك، حيث كنت “أسير الكالسيوم عبر الوريد”، وجسمي كان يرفض الدواء المتوافر، والحل كان في علاج أميركي جديد، وهو حقن هرمون الباراثايرويد، الذي كان يمثل أملا لي للخلاص من ويلات مرضى الهايبوباراثايرويد. كانت صحتي تتدهور مع الحقن اليومي للكالسيوم، وعندما أغلقت كل الأبواب أمامي لم أجد غير طرح موضوعي في الصحافة. وتم نشر قصتي في الصحافة البحرينية، مع التماس الحصول على موافقة وزارة الصحة على العلاج. وبعد النشر كنت أعيش حالة ترقب لصدى الموضوعات المنشورة، خصوصا من وزارة الصحة، وفي ذات يوم وصلتني رسالة عبر بريدي الإلكتروني من الأستاذ فيصل فولاذ من جمعية البحرين لمراقبة حقوق الإنسان، والذي كان عضوا في مجلس الشورى أيضا، وكان يتحدث في الرسالة عن تضامنهم معي للحصول على العلاج بعد قراءتهم الموضوع المنشور في الصحيفة، وطلب مني التواصل معه. أصابني الذهول من رسالته وتباذر سؤال في ذهني؛ فما علاقة مريض يبحث عن علاج بجمعية لحقوق الإنسان، فمفهوم مصطلح حقوق الإنسان عندي، كان مرتبطا بالحماية من التعذيب والمعتقلين والحقوق السياسية؛ ولكن حين التقيت بفيصل فولاذ أوضح لي أنهم يدعمونني؛ كون الصحة والعلاج حقا من حقوق الإنسان، وأن دستور البحرين كفل حق العلاج، وأنهم يساعدونني بناء على مادة 8 الفقرة (أ) من الدستور البحريني التي تنص على أنه: “لكل مواطن الحق في الرعاية الصحية، وتعنى الدولة بالصحة العامة، وتكفل وسائل الوقاية والعلاج بإنشاء مختلف أنواع المستشفيات والمؤسسات الصحية”. كانت هذه المادة هي منطلقهم في دعمي.
وأقامت الجمعية مؤتمرا صحافيا في يوم الشباب العالمي عن قضيتي، كنموذج للشباب البحريني، وأطلقت مناشدتها لعلاجي، وتصدر الخبر كل الصحف المحلية. وتواصلت الجمعية مع وزارة الصحة، حيث التقى الأستاذ فيصل فولاذ وكيل وزير الصحة آنذاك د. عبدالعزيز حمزة.
وبعد لقاءات عدة، إضافة لنشاط الجمعية الإعلامي، أثمرت تلك الجهود موافقة وزارة الصحة وحصولي على العلاج.
شكلت تجربتي هذه بداية معرفتي وإدراكي بحقوقي المكفولة دستوريا كوني مريضا، فمملكة البحرين كفلت حق العلاج لكل المواطنين في نص صريح وواضح في مادة 8 الفقرة (أ) من الدستور البحريني، كما أوضح لي الأستاذ فيصل فولاذ، ومنحني جرعات الوعي الحقوقي الأولى، فهذا البند كان أساسا ومنطلقا للقوانين ولخطة عمل الحكومة ورؤيتها، فوفرت المستشفيات والمراكز الصحية مع مجانية العلاج، وقامت بتأهيل الأطباء ليقدموا الرعاية الصحية، وابتعثتهم لأرقى الجامعات.
الجهل بالحقوق يضيعها، والوعي بها يصونها، لذلك على المجتمع أن يدرك حقوقه التي كفلها له الدستور، فحين تدخل مجمع السلمانية الطبي تصادفك يافطة مكتوب عليها جميع حقوق المريض التي له والتي عليه، وكثيرون يمرون عليها مرور الكرام دون أن يعيروها اهتماما. وأبرز الحقوق المذكورة هي أن من حق المريض تلقي الرعاية الرحيمة والمحترمة دون تمييز، ومن حقه معرفة هوية الطبيب المعالج والممرضين، ومن حقه معرفة التشخيص وخطة العلاج وسبب خضوعه للفحوصات، ومن سيقوم بها والحفاظ على خصوصيته، وأن يكون معه شخص من نفس جنسه عند الحاجة، وأن يتم الحفاظ على خصوصية وسرية معلوماته وبياناته الطبية والاجتماعية، وأن يتم متابعة علاجه، ويتم إبلاغه إذا استدعت الحالة تحويله إلى أي مؤسسات علاجية أخرى، والتعرف على المؤسسات العلاجية والتعليمية التي لها علاقة مباشرة بعلاجه، والموافقة أو رفض المشاركة في البحوث الطبية، هذه أبرز الحقوق، ومن المؤكد أن من سيقرأها سيصاب بالصدمة وربما الدهشة؛ لأنه واجه قضايا مشابهة، ولكن لجهله بحقوقه ضاعت. فعلى سبيل المثال، كم من عائلة واجهت ظرف أن يعالج إحدى نسائها طبيب، ورغم رفضهم هذا بسبب العادات والتقاليد، إلا أنه لا يستجاب لطلبهم، في حين أن هذا من حقوق المرضى، وعلى الطاقم الطبي الالتزام به، وكم من مريض لا يشعر بالأمان والاطمئنان مع طبيب؛ ولكن هذا الطبيب يفرض عليه، في حين أن من حقه اختيار الطبيب المناسب وتغييره إن طلب.
وفي مجمع السلمانية الطبي هناك قسم لعلاقات المرضى، وخصص لتلقي الشكاوى والملاحظات، وكثيرون يتضررون ولا يراجعونه، فتضيع حقوقهم. وكمثال شخصي، في فترة ما كان الدواء غير متوافر في الصيدلية، ولأنني أدركت حقوقي راجعت قسم علاقات المرضى ورحبوا بي، وأخبروني أن أوفر الدواء من جانبي ويمكنني استرجاع المبالغ عن طريق رصيد الدواء وهذا ما فعلته، حيث كلفني شراء الأدوية حدود 1000 دينار، استرجعتها كاملة من وزارة الصحة. لو كنت لا أدرك هذا الحق لضاع مني هذا، حق استرجاع المبالغ. وسعادة النائب علي العطيش ممثل منطقتنا في مجلس النواب آنذاك نسق للقاء لي مع سعادة وكيل الوزارة حينها د. وليد المانع، الذي رحب بي ووعدني بعدم تكرار هذا الأمر وحل مشكلة عدم توافر الدواء. هنا أدركت مرة أخرى قيمة القانون ومعرفة الحقوق، فكثير من الحقوق تهدر بسبب عدم الوعي بالجانب الحقوقي. وثقافة الحقوق التي اكتسبتها من تجربتي مع جمعية البحرين لحقوق الإنسان وظّفتها في نشاطي التوعوي لمساعدة المرضى، حيث أسست فريقا تطوعيا باسم “هايبوبارا بحرين” لمساعدة مرضى الهايبوباراثايرويد، ونستعد لتأسيس جمعية رسمية، وقد صقلت هذه التجربة بمشاركاتي في مؤتمرات دولية بالولايات المتحدة الأميركية من تنظيم الجمعية الدولية، وكانت غالبية مشاركاتي بدعم جمعية البحرين لمراقبة حقوق الإنسان، حيث كانت لهم كلمة في المؤتمر الأول الذي أقيم في ولاية ماريلاند.
تجربتي مع مرض الهايبوباراثايرويد لم يقتصر أثرها على المرض ذاته؛ بل تعدته إلى مرض آخر، فقد نقلت تجربتي بكل ما فيها من إيجابية إلى مرضى متلازمة “سنجد سقطي”، وهو مرض وراثي خلقي، ينتج عنه نقص في هرمون الغدد جارات الدرقية، مع قصور في القامة وتأخر في التطور، ويندرج ضمن الأمراض الوراثية النادرة، فهم يشتركون معي في مشكلة الكالسيوم. ويولدون حصرا في البلدان العربية، لذلك يطلق عليه متلازمة الشرق الأوسط.
بدأت قصتي معهم بعد أن نشرت مذكراتي مع مرضي، وقصة نجاحي في الوصول إلى علاج حقن هرمون “البارثايرويد”، إضافة إلى عدد من المقالات التي تداولتها الصحف. كان خبر علاجي بحقن الهرمون يمثل جرعات أمل لهم، فتلقيت اتصالات عدة، من البحرين وعدد من دول المنطقة، وأصبحت جزءا من عالم “سنجد سقطي”، وقررتُ خوض حركة الوعي معهم، وهو ما جعلني أكون ملما بواقع المرض وكل حيثياته.
تحدثتُ عن المرض في مؤتمرات الولايات المتحدة، وتواصلتُ مع مكتشفة المرض د. نادية سقطي، وتعاونتُ معها في مساعدة المرضى، ونسقتُ معها للقاء يجمعها بعوائل “سنجد سقطي” في مستشفى الملك فيصل الطبي بحضور د. عفاف الصغير، وبدعم من جمعية البحرين لمراقبة حقوق الإنسان، وكان لقاء تاريخيا، ففيه اتفقنا على تخصيص يوم عالمي للمرض، وهو 23 مايو الذي يصادف ذكرى ميلاد الطبيبة، كما اتفقنا على تشكيل رابطة لعوائل “سنجد سقطي” لتكون صوتهم، وكان اللقاء توعويا بصبغة حقوقية، فقد تناولت د. عفاف الصغير حقوق المرضى وعوائلهم، وماذا يمكن أن يقدمه لهم مستشفى الملك فيصل الطبي كونهم سعوديين، فلهم كل الحق في الاستفادة من خدمات المستشفى. وكان الجانب التثقيفي الحقوقي طاغيا في اللقاء أكثر من الجانب الصحي؛ لأننا وجدنا العوائل تائهين غير مدركين لحقوقهم.
وختاما أؤكد أن الوعي الحقوقي والوعي الصحي خطان لا ينفصلان، فلابد من الاهتمام في تكريس الجانبين لنؤهل المرضى لمواجهة متكاملة للمرض. فلا يكفي أن تكون الحقوق منصوصا عليها في قوانين، بل لابد من المساهمة بالتوعية الحقوقية للمرضى؛ ليستثمروا هذه الحقوق في مسيرة علاجهم ولا تضيع.