في عالم يتسم بالتحولات الاقتصادية والسياسية السريعة، تبرز مشروعات تعاونية بين دول كبرى تسعى لتغيير قواعد اللعبة المالية العالمية، وأحد هذه المشروعات هو “إمبريدج” (mBridge)، الذي يعد تعاونًا بين الصين والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، ويهدف إلى إحداث ثورة في نظام المدفوعات الدولي.
هذا المشروع يُنظر إليه على أنه تهديد محتمل لهيمنة الدولار الأميركي كنظام احتياطي عالمي، خصوصا في ظل التهديدات الأميركية المتكررة بفرض عقوبات على الدول التي تحاول استبدال الدولار بعملات أخرى.
خلفية المشروع
في فبراير 2025، وجه الرئيس الأميركي دونالد ترامب تحذيرات شديدة اللهجة إلى الدول الأعضاء في مجموعة “بريكس” (BRICS)، مهددًا بفرض رسوم جمركية بنسبة 100 % على أي دولة تحاول استبدال الدولار بعملة أخرى، هذه التهديدات تأتي في إطار سعي الولايات المتحدة للحفاظ على هيمنة الدولار كنظام مالي عالمي، إذ يُستخدم الدولار كسلاح اقتصادي لفرض العقوبات على دول مثل روسيا وإيران.
ومع ذلك، فإن هذه التهديدات دفعت العديد من الدول إلى البحث عن بدائل للدولار، ما أدى إلى زيادة اهتمام البنوك المركزية العالمية بشراء الذهب كبديل آمن، وفي هذا السياق، ظهر مشروع “إمبريدج” كبديل حقيقي لنظام المدفوعات الدولي القائم على الدولار.
ما هو مشروع “إمبريدج”؟
“إمبريدج” هو مشروع تعاوني بين دول عدة، أبرزها الصين والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، يهدف إلى إنشاء نظام دفع دولي يعتمد على العملات الرقمية الصادرة عن البنوك المركزية (CBDCs). هذا النظام يسمح بإجراء تحويلات مالية فورية وآمنة وبكفاءة عالية، دون الحاجة إلى المرور عبر النظام المالي الأميركي أو استخدام الدولار.
تم إطلاق المشروع في العام 2021، وبدأت تجاربه العملية في العام 2022 بمشاركة خمسة أطراف رئيسة: بنك التسويات الدولية (BIS)، والبنك المركزي الصيني، والبنك المركزي الإماراتي، والبنك المركزي التايلندي، وسلطة النقد في هونغ كونغ، والهدف الرئيس للمشروع هو توفير نظام دفع دولي يكون بديلًا عن النظام الحالي القائم على الدولار ونظام “سويفت” (SWIFT) و “تشيبس” (CHIPS).
كيف يعمل “إمبريدج”؟
يعتمد مشروع “إمبريدج” على تقنيات متقدمة مثل “البلوك تشين” والتشفير لتسهيل التحويلات المالية بين الدول المشاركة. على سبيل المثال، إذا أراد شخص في الإمارات تحويل مبلغ مالي إلى شركة في تايلاند، يتم تحويل المبلغ من الدرهم الإماراتي الرقمي إلى البات التايلاندي الرقمي عبر منصة “إمبريدج”، دون الحاجة إلى تحويل العملة إلى دولار أو المرور عبر نظام “سويفت”. هذه العملية تتم في غضون ثوانٍ معدودة، وتكون آمنة وسريعة ومنخفضة التكلفة.
أهمية المشروع بالنسبة للسعودية والإمارات
انضمام المملكة العربية السعودية إلى مشروع “إمبريدج” في يونيو 2024 كان خطوة مهمة عززت مكانة المشروع على الساحة الدولية، السعودية، بوصفها واحدة من أكبر الاقتصادات في العالم وأكبر مصدر للنفط، تمتلك تأثيرًا كبيرًا على النظام المالي العالمي، وانضمامها إلى المشروع يعكس رغبتها في تقليل الاعتماد على الدولار وتعزيز التعاون الاقتصادي مع الصين ودول أخرى.
أما الإمارات، فقد كانت من أوائل الدول التي تبنت العملات الرقمية الصادرة عن البنوك المركزية، إذ أطلقت الدرهم الرقمي في أواخر يناير 2024. الإمارات أيضًا نفذت أول عملية دفع دولية باستخدام الدرهم الرقمي عبر منصة “إمبريدج”، ما يؤكد التزامها بتبني التقنيات المالية الحديثة وتقليل الاعتماد على النظام المالي التقليدي.
تهديد للدولار الأميركي
مشروع “إمبريدج” يُعد تهديدًا حقيقيًا لهيمنة الدولار لأنه يتجاوز النظام المالي الأميركي تمامًا، ففي النظام الحالي، حتى التحويلات بين دولتين غير أميركيتين تمر عبر بنوك أميركية ونظام “سويفت”، ما يمنح الولايات المتحدة قدرة على مراقبة هذه التحويلات وفرض عقوبات على أي طرف، أما في نظام “إمبريدج”، فإن التحويلات تتم بشكل مباشر بين العملات الرقمية للدول المشاركة، دون أي تدخل أميركي.هذا النظام الجديد يقلل فعالية العقوبات الأميركية، إذ تصبح الدول المشاركة في “إمبريدج” أقل عرضة للضغوط الأميركية، على سبيل المثال، إذا قررت الولايات المتحدة فرض عقوبات على دولة ما، فإن هذه الدولة يمكنها الاستمرار في إجراء تحويلاتها المالية عبر “إمبريدج” دون الحاجة إلى الدولار أو النظام الأميركي.
ردود الفعل الدولية
ردود الفعل على مشروع “إمبريدج” كانت متباينة، من ناحية، أثار المشروع قلق الولايات المتحدة، التي ترى فيه تهديدًا لنفوذها الاقتصادي. وفي أكتوبر 2024، أعلن بنك التسويات الدولية انسحابه من المشروع، وهو قرار يُعتقد أنه جاء تحت ضغوط أميركية، ومن ناحية أخرى، أبدت دول مثل روسيا والصين اهتمامًا كبيرًا بالمشروع، إذ ترى فيه فرصة لتقليل الاعتماد على الدولار وتعزيز التعاون الاقتصادي بين الدول الناشئة.
مستقبل المشروع
على الرغم من الانسحابات والتحديات، فإن مستقبل مشروع “إمبريدج” يبدو واعدًا، خصوصا مع انضمام دول جديدة مثل السعودية. وتشير التوقعات إلى أن المشروع سيستمر في التطور، وإن كان بشكل هادئ لتجنب استفزاز الولايات المتحدة. مع ذلك، فإن نجاح المشروع على المدى الطويل سيعتمد على قدرته في جذب مزيد من الدول وبناء نظام مالي بديل يكون قادرًا على منافسة النظام الحالي القائم على الدولار.