“زينب ولدت بنصف قلب”.. بهذه الكلمات الصادمة استقبل الأطباء ليلى النمر، بعد يوم واحد فقط من ولادة طفلتها زينب الفرج، لم تكن هذه مجرد عبارات تشخيصية؛ بل كانت زلزالا حقيقيا هز أركان أسرتها وغير مسار حياتهم للأبد، وأدخلهم عالما مختلفا عن باقي البشر، عالما مليئا بالخوف والقلق والترقب، إذ أخبروها أنها تعاني من مشكلة في القلب وهي ضمور بالبطين الأيمن وضمور بالشريان الأورطي وهو تشوه جيني نادر جدا يصيب 0.002 % فقط من الأطفال، واحتمالات نجاتها ضئيلة جدا فربما لن تعيش.
كان وقع الخبر قاتلا بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، ووسط أكوام من العبارات السلبية والمحبطة من المحيطين بها، الذين يطلبون منها تركها لمصيرها والتخلي عنها، فدخلت في نوبات حزن واكتئاب مفرطة، حتى استوعبت الصدمة، ولم تستسلم. وقررت ملاحقة بقع الضوء البعيدة المتناثرة وسط هذا الظلام، حيث قررت البحث خارج الصندوق، وأنها ستخوض معركتها حتى النهاية، ولو تطلب الأمر السفر إلى آخر بقاع الأرض. تمسكت بالأمل، ودخلت مرحلة الرضا والقبول، حتى أثمرت جهودها وجهود زوجها تنسيق علاج زينب في مستشفى الملك عبدالعزيز في جدة، تحت إشراف د. زاهر الزاهر والجراح عثمان الراضي. وبعد 3 عمليات قلب مفتوح و3 قسطرات قلبية، استقرت حالة زينب وأصبحت قادرة على العيش بنصف قلب..
عبر صفحتها في منصة الإنستغرام @zainab_hrhs خاضت ليلى معركة الوعي بجدارة لتقدم تجربتها مع ابنتها نموذجا ملهما لانتصار إرادة الحياة. بقدرة الأمل والدعم الجماعي على تحقيق الشفاء والتعافي، أصبح هذا الحساب مصدرا قيما لكل من يبحث عن دعم نفسي وملاذا للتضامن والمساعدة الفعلية.
زينب الفرج أكلمت 5 سنوات من عمرها، سنوات قضت فيها والدتها معها أيامها وساعاتها عند الأطباء والمستشفيات والمتابعات وعلى باب غرفة العمليات، لكنها خرجت من هذه الرحلة بشعور أعمق بقيمة الحياة، وإيمان أقوى بأن الأمل قادر على صناعة المعجزات.. رحلة لم تنته بعد وتتجدد فصولها مع مستقبل غامض..
في هذا اللقاء، تفتح “صحتنا” قلبها للحوار مع والدة زينب ليلى النمر من المملكة العربية السعودية، لتروي لنا تفاصيل الرحلة التي صنعت من الألم معجزة حياة.
بدايات التشخيص وخيارات العلاج المرعبة
تتحدث والدة زينب عن بدايات التشخيص، فتشير إلى أنها حملت بزينب بعد ابنين سليمين، وكانت تمارس حياتها كأي أم حامل وتعتني بذاتها، ولم تكن تعاني من أي مشكلة، وكانت فحوصات الجنين دائما مطمئنة، وكان لديها ارتفاع بالسكر المصاحب للحمل، وخوفا على الجنين قرر الأطباء الولادة في الأسبوع الأول من الشهر التاسع، فولدت ولادة قيصرية ولم يكن لديها علامات مقلقة ووضعها كان طبيعيا.
وتتابع بأنه بعد الولادة بـ 24 ساعة بدأت الأعراض بالمستشفى تظهر، وهي سرعة التنفس وصعوبة الرضاعة وازرقاق وبكاء متواصل، وتم إدخالها العناية المركزة وبقيت في الحاضنة، بينما الطبيب في قسم العناية كان يطمئننها بأنه قد يكون بسبب وجود ماء في الرئة، مشيرا إلى أن هذا يحدث مع الأطفال حديثي الولادة؛ ولكن في عصر نفس اليوم التقى بها استشاري قلب الأطفال ليخبرها بالخبر الصادم، بأن زينب ولدت بنصف قلب، وتعاني من ضمور بالبطين الأيمن وضمور بالشريان الأورطي، وهو تشوه جيني نادر جدا ويصيب 0.002 % من الأطفال في العالم، وشرح المرض وخيارات العلاج المرعبة، التي قد تؤدي إلى الوفاة، فلديها تشوهات كثيرة بالقلب وتحتاج لثلاث عمليات قلب مفتوح وقسطرات عدة لتستطيع العيش بنصف قلب، وهذه العمليات لم تكن علاجا جذريا، فهي تلطيفية فقط لتحسين وضعها الصحي، وهي عمليات صعبة مع خوف شديد من عدم تجاوزها ومضاعفاتها.
قبول التحدي والسعي نحو العلاج
وبدأت خطواتها الحقيقة نحو العلاج، وتقول عن ذلك “ولله الحمد، بمجهود والديها مع طبيب القلب نقلناها إلى مستشفى جامعة الملك عبدالعزيز في جدة وهو متخصص بجراحة قلب الأطفال، وأكرمنا الله بنخبة من أكفأ الأطباء هناك، وشجعونا على الصبر بعلاجها، حيث جلس معنا دكتور زاهر الزاهر والجراح عثمان الراضي، وشرحا لنا المرض وصعوبته وسير العمليات وما يترتب على حياتها المستقبلية”.
ثلاث عمليات قلب مفتوح
وتواصل بأنه أجريت لها العملية الأولى وحدثت مضاعفات كثيرة وصعوبات جمة، ومكثوا شهورا طويلة في العناية المركزة وأصبح عالمهم مختلفا عن كل الناس.. ولم يستقروا أبدا.
كانت بين الحياة والموت ولا أحد يعرف ما إذا كانت ستتجاوز هذه العمليات ومضاعفاتها أو لا، فعلاجها وعملياتها كلها أمور غير واضحة لهم؛ لندرة هذا المرض.
وبعد فترة أجريت لها العملية الثانية ودخلت بصعوبات ومضاعفات وتوقف القلب مرتين، وتم إنعاشها وقضت السنة الأولى من حياتها بالمستشفيات وفي غرف العناية والإنعاش حتى شملتهم رحمة الله، وتقول “ثم أجريت لها العملية الثالثة وعادت بصعوبة بعد 3 أشهر بالمستشفى يتخللها شهر رمضان والعيد، والزيارة كانت ممنوعة بفترة الكوفيد وبمضاعفات خطيرة وبأحداث طويلة جدا ومواقف وتحديات كثيرة لا تسعها الصفحات”.
ثقتها بالله منحتها القوة
وتصف رحلة العلاج بالقول “قضيت الثلاث سنوات ونصف السنة من عمرها عند الأطباء والمستشفيات والمتابعات وعلى باب غرفة العمليات أقف وأدعو وأترجى الله أن تخرج طفلتي بالسلامة”. وتضيف أنها عندما خرجت ابنتها من المستشفى منحتها كل اهتمامها مع الأطباء والتمريض جنبا إلى جنب وعاشت معها أصعب أيام حياتها، وشعرت أن لحياتها قيمة أكثر، حيث كونت مع الكادر الطبي منظومة متكاملة لإنجاح العمليات وللعلاج، وكانت مواعيد الأدوية لطفلتها أهم من أي موعد ثان في الدنيا.
وألمحت أنها في هذه الفترة ازدادت ثقتها بالله سبحانه، وتعلقهم يكبر كل يوم، فتقول “بدأت أشعر أنني في أهم اختبار في حياتي، وسأخوض معها هذا التحدي بكل قوتي مع طفلتي لتتمسك بالحياة، وفي كل يوم كنت أتوصل لمعلومة جديدة وأتعرف على أهالٍ مثلنا ونبدأ نستمد قوتنا من بعضنا”.
متابعات وفحوصات روتينية مدى الحياة
ولفتت إلى أن صحة زينب استقرت بعد إنهاء الخطة العلاجية المتمثلة بثلاث عمليات قلب مفتوح وثلاث قسطرات لتغيير الدورة الدموية لتستطيع العيش بنصف قلب، رغم مواجهتهم انتكاسات وتحديات كثيرة طوال السنة، وأدوية مدى الحياة تزيد وتنقص، ومتابعات وفحوصات كثيرة روتينية مدى الحياة وقسطرات بين فترة وأخرى؛ لكنها تعيش طفلة طبيعية وذكية وتحب الحياة، مع محاذير كثيرة لأجل استقرار صحتها.. ولربما تحتاج لعمليات أخرى أو زراعة قلب في حال ساءت صحة القلب.. وتضيف “كلها احتمالات طبية، وبإذن الله وبلطفه وتطور الطب والعلم.. وستعيش بنصف قلب حياة كاملة طويلة بصحة وسلامة”.
الاهتمام صحة واستقرار
وأوضحت أنها في فترة عمليات ابنتها ثقفت نفسها ودرست مرض ابنتها بكل تفاصيله، لدرجة أنها كانت تناقش أكبر أطباء القلب بتفاصيل علاجها وآخر البحوث فيه، وتقول “عاهدت نفسي بأن أبذل طاقتي لتحسين صحتها والاهتمام بها لتعيش حياة سعيدة وبصحة أفضل بالعمر الذي يكتبه الله لها؛ لأنني استوعبت أن الاهتمام صحة واستقرار”.
صدمة التشخيص أبرز الصعوبات
وبعد هذه الرحلة المليئة بالألم والخوف، بينت أن أكبر الصعوبات التي واجهتها كانت صدمتهم بالتشخيص ورؤيتهم مولودتهم بين كل هذه الأجهزة، لتعيش وتدخل عملية قلب في أيامها الأولى، فزينب كانت تصارع الموت وتتمسك بالحياة، وهذا أثر في حياتهم ونظرتهم لنعمة الصحة والعافية، وأثر على إخوانها بالبيت. وحين سألناها عن كيف تغلبت على ظروف المرض واللحظات الصعبة أجابت بأنها تغلبت على الظروف القاسية مع المرض باللجوء إلى التفريغ العاطفي والبكاء واللجوء إلى الله تعالى بالدعاء والتوسل والاستماع إلى الأشخاص الإيجابيين والتجارب الناجحة الإيجابية لمثل حالتها، وبتغذية أنفسهم بالمعرفة والتوعية.
زوجي الجندي المجهول
ولفتت إلى أن زوجها كان الجندي المجهول في رحلة علاج زينب منذ اللحظة الأولى، والسند الأول لها، وشريكا حقيقيا في الحياة، حيث يبذل قصارى جهده ليخفف عنها العبء النفسي والجسدي. في أوقات الألم والحزن، وكان هو مصدر القوة لها. والداعم بالكلمات الإيجابية والمحفزة التي تحتاجها نفسها في تلك الأوقات الصعبة. وتحمل أيضا جزء كبيرا من المسؤولية اليومية. كان يحافظ على توازن حياتهم رغم كل ما مروا به، وتحمل مسؤولية الأولاد، بينما هي تفرغت للاهتمام بصحة زينب. فكلما هزمتها الأفكار التشاؤمية كان يمنحها جرعات إيجابية.
من البحث عن الأمل إلى نشره
وأوضحت أنها عندما أنجبت زينب، كانت الحياة مليئة بالتحديات الكبيرة التي لم تكن مستعدة لها. كانت طفلة صغيرة ولدت بمشكلة قلبية معقدة، فحاولت البحث عن الأمل وبحثت في صفحات الإنترنت الأجنبية عن قصص نجاح لأطفال خضعوا لعمليات قلب معقدة وعاشوا حياة طبيعية، لكنها كانت تبحث عن تجارب مشابهة في السعودية وفي الوطن العربي، لعلها تجد من يطمئنها ويعطيها الأمل في أن ابنتها قد تتجاوز هذا التحدي؛ لكن للأسف في العالم العربي كان التحفظ وإخفاء الحالات المعقدة يسيطر على المجتمع.
إلى أن جاء الوقت الذي قررت فيه أن تفتح صفحة على وسائل التواصل الاجتماعي، ليس فقط كوسيلة لتوثيق تجربتها الشخصية مع طفلتها، بل كمنصة تهدف إلى مساعدة الأمهات والآباء الذين يواجهون نفس المشكلة.
فتحت صفحة في الانستغرام (zainab_hrhs@) بشكل تطوعي، وكان الهدف الرئيس منها تثقيف الأهالي وتعريفهم بأهمية العناية والرعاية الصحية لأطفالهم مرضى القلب، وكيفية التعامل مع هذه الحالات المعقدة بشكل علمي ومبني على التجارب الواقعية.
بدأ حسابا بسيطا، وتحول بسرعة إلى منصة دعم حقيقية. وعبر هذه الصفحة، كانت تحرص على تقديم المعلومات الصحية الموثوقة من الأطباء المختصين، وكذلك مشاركة القصص الحقيقية لعائلات تماثل أطفالها للشفاء بعد الخضوع لعمليات قلب معقدة، لتكون تلك القصص مصدرا للراحة النفسية والدافع للأمل لكل من يواجه نفس المصاعب.
وتضيف أن الحساب تجاوز الشكل العادي ليصبح شبكة حيوية للتفاعل والمساندة. وتفاجأت بالعدد الكبير من الرسائل التي تلقتها من أمهات وآباء من جميع أنحاء العالم العربي، يشاركون تجاربهم ويبحثون عن النصائح والإرشادات في كيفية العناية بأطفالهم مرضى القلب. كانت هذه التجارب حافزا لها للاستمرار؛ لأنها تعرف ماذا يعني أن تشعر بالحيرة والخوف من المستقبل.
ولفتت إلى أنها كتبت قصتها وشاركت الناس تجربتها وكل ما اكتسبته من معرفتها القليلة من بحر العلم في أمراض قلب الأطفال؛ لتمد يد العون لكل أم ببداية طريقها وتعاني نفس معاناتها مع طفلها المريض، وتشجعها على الكفاح والصبر والتمسك بهذا البطل الصغير الذي يصارع لأجل الحياة، وأن تكون قوية بشكل كاف ليستمد منها العون والقوة.