الدكتور محيي الدين عميمور
لم تنطق فرنسا بكلمة واحدة عما إذا كانت لديها “السيادة” التي تمكنها من اعتقال “بنيامين نتنياهو” إذا وطأت قدمه مطار “شارل ديغول .”!. وعندما كنا نقول بأن السلطات الرسمية الفرنسية هي دمية في يد الكيان الصهيوني، كان هناك من يظن أن موقفنا هو مجرد تعبير عن كراهية المستعمر السابق، متناسين أن فرنسا هي الدولة الوحيدة، فيما أعرف، التي سنّت قانونا يعاقب من يرفض خرافة الستة ملايين يهودي، حتى ولو قال إن من قتلوا هم خمسة ملايين و999 ألفا فقط.
ووصل الأمر ببلاد الحرية والإخاء والمساواة إلى محاكمة مفكر كبير بحجم روجي غارودي، لأنه رفض الاعتراف بالمزاعم الصهيونية، ناهيك عن قرار محكمة فرنسية حظر عرض مسرحي كان سيقدمه الفنان الكوميدي “ديودونيه” بحجة أن له تصريحات تُعادي السامية، بالإضافة إلى أنها توظف اليوم قنوات التلفزة لاجترار الاتهامات المألوفة بتعذيب الألمان لليهود وقتلهم بالغاز، وذلك لتحويل أنظار المشاهدين بعيدا عن جرائم الكيان الصهيوني في غزة ولبنان.
على النقيض من ذلك، يُعبّر الرئيس الفرنسي أمس عن قلقه العميق لأن السلطات الجزائرية ألقت القبض على المدعو “بو علام صنصال” بمجرد وصوله إلى مطار الجزائر. وتضيف وكالة الأنباء الفرنسية بأنه تم “حشد مصالح الدولة لتوضيح وضعه”، وبأن “رئيس الجمهورية أبدى تمسكه الثابت بحرية الكاتب والمثقف الكبير. (هكذا).
من جهته، قال رئيس الوزراء السابق إدوار فيليب في منشور على منصة إكس: “إن صنصال يجسد كل ما نعتز به: الدعوة إلى العقلانية، إلى الحرية والإنسانية ضد الرقابة والفساد والإسلاموية”!!!، داعيا “السلطات الفرنسية والأوروبية للحصول على معلومات دقيقة حول مصيره وضمان قدرته على التحرك بحرية والعودة إلى فرنسا متى أراد”.
وطالبت دار النشر الفرنسية “غاليمار” بـ”الإفراج” عن الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال بعد “اعتقاله على يد الأمن الجزائري” غداة إبداء الرئاسة الفرنسية قلقها إزاء “اختفائه” (وغاليمار هي الدار التي حُرمت من المشاركة في معرض الجزائر الأخير للكتاب).
والغريب هو أن السلطات الفرنسية تناست أن الجزائر، التي غفرت لأنريكو ماسياس تواطئه مع القوات الاستعمارية الفرنسية، لم تغفر له تهليله للانتصار الصهيوني في 1967، وحرمته من زيارة الجزائر إلى يوم الناس هذا. وليس سرّا أن خلفية الموقف الفرنسي هو عقدة النقص التي تعاني منها فرنسا، والتي كان انبطاحها أمام النازية ومساهمتها في تعقب اليهود وصمة عارٍ لا تُمحى ولا تزول.
لكن، من هو هذا العبقري الذي اهتز لاعتقاله رئيس فرنسي لم تتحرك شعرة في حواجبه أمام سقوط أكثر من 50 ألف شهيد على يد الصهاينة، إلى جانب عشرات الآلاف من الجرحى وملايين النازحين، وحجم دمار للأرض العربية لم يسبق له مثيل.
يقول وزير الصناعة الأسبق الهاشمي جعبوب عنه، بعد أن درس ملفه الوظيفي: صنصال قاصّ يكتب بالفرنسية وإطار سابق بوزارتي التجارة والصناعة. ويمكن القول أن آلاف القراء هنا لا يعرفون عنه شيئا على الإطلاق، باستثناء بعض “الفرانكوش” بالطبع، وهو من مواليد عام 1949 في الجزائر، لأب من أصل مغربي وأمّ تلقت تعليما فرنسيا كما جاء في وكالة DW.
ويُعرّف بوعلام صنصال بنفسه في كتابه “شارع داروينLa rue Darwin “، وفي لقاءاته العديدة مع الصحافة الفرنسية، بأنه من ولاية “تيسمسيلت” الجزائرية، تربى تحت رعاية وكفالة جدته من أمه التي كانت ثرية جدا جدا، وكانت تملك عقارات رهيبة تحتوي على فيلات وعمارات ومحلات كثيرة بموطنه الأصلي بمنطقة الريف المغربية وبمدينة كليشي الفرنسية، وأنها كانت تدير تجارة مربحة. وبعد وفاة والده في حادث مرور تحت تأثير مفعول المخدرات، كما يؤكد ذلك بنفسه، لجأت أمه إلى حاخام معبد يهودي (Le rabbin d’une synagogue) يقع بشارع “داروين” بحي “بلكور” بالعاصمة الجزائرية فاستقبلها وأسكنها هي وأولادها، وهناك تربى وتعلم الابن على أعين الحاخام الذي تولى رعايته وتوجيهه.
وحين سأله الصحفي منشط قناة Fr2 إن كان مسلما، رد مسرعا كمن يدافع عن نفسه من تهمة خطيرة قائلا: لا أبدا، أنا لست مسلما، أنا مرتد (apostat)، ثم استدرك قائلا بل أنا ملحد (athée)، ولم أكن يوما مسلما لا أنا ولا أحد من أفراد عائلتنا الملحدة، نحن لم نعرف يوما لا الإسلام ولا العربية، نحن مفرنسون لغة وثقافة.
ويقول الهاشمي جعبوب: عندما تم تعييني وزيرا للصناعة في 2002 وجدت اسم صنصال ضمن قائمة الإطارات بالوزارة برتبة مدير عام للصناعة، وعندما استدعَيتُ إطارات الوزارة للتعرف إليهم وسماع انشغالاتهم فوجئت بأنه غائب على الدوام، وأخبرني الأمين العام للوزارة أن صنصال يقوم بمهام في الخارج بتكليف من جهات عليا في الدولة (يبدو أنها كانت من مراكز النفوذ التي تنمرت خلال التسعينيات تحت ستار مكافحة الإرهاب).
ويقول الوزير: بعد عودة صنصال إلى الجزائر استدعيته إلى مكتبي واستفسرته عن سبب غيابه وسفرياته للخارج بدون إذن الوزير، فرد على سؤالي بأن سفرياته هي في إطار مهمات تفوق مستوى الوزير، وهنا طردته من مكتبي وعملتُ على إنهاء مهامه.
ويتحول صنصال إلى معارض، وبعد أن فقد سنده هاجر إلى فرنسا حيث أستُقبل استقبال الجندي المغوار العائد من المهام التي كان قد كلف بها، مما يوحي أنه كان عنصر اختراق للساحة الجزائرية، خُدِعت به بعض المواقع التي لم تدرك أنه كان عميلا مزدوجا، كشفه الطرد من المنصب الوزاري.
وتلقفته الوسائل الإعلامية الفرنسية اليمينية المتطرفة واستضافته جل القنوات التليفزيونية والإذاعية وراحت تمجده وتتناقل أخباره وتستنكر تنحيته، مما يؤكد أنه كان، بحكم منصبه، مفيدا للمستعمر السابق بشكل ما.
وحين سُئل كيف استطاع مواصلة العمل بوزارة الصناعة والتعايش مع وزراء إسلامويين !! وهو الديمقراطي اللائكي؟. راح يتباكى (ليظهر في ثوب الضحية السياسية بحثا عن اللجوء السياسي) مدعيا إن سبب إنهاء مهامه هو معارضته !!! للنظام السياسي وكذا بسبب معارضته لسياسة التعريب.
ويقول وزير الصناعة الأسبق: للحقيقة والتاريخ أقول إنني لم أتلق أية توجيهات ولا تعليمات بشأن صنصال ولا علاقة لفصله لا بمعارضته المزعومة للنظام ولا بقناعاته الإيديولوجية، إنما قمت بإنهاء مهامه من باب تحملي لمسؤليتي كاملة لفرض احترام القانون على الجميع ودون استثناء، حماية لقدسية المرفق العام وصون مهابة الدولة من ألاعيب الذين استغلوا الظروف الأمنية السائدة آنذاك (خلال العشرية المأساوية) وعاثوا في الأرض فسادا وطغيانا تحت غطاء محاربة الإرهاب والتطرف، فكانوا أكثر ترويعا وأكثر تطرفا وأكثر إيلاما للدولة ومؤسساتها من أسوأ المتطرفين.
ويواصل سي الهاشمي قائلا: استقر صنصال بباريس ثم راح يصول ويجول متنقلا بين الوسائل الإعلامية والندوات السياسية وحتى الدينية، وزاد من إصداراته (الأدبية) بحثا عن التقرب أكثر من اللوبيات الفرنسية اليمينية المتطرفة والصهيونية…
وفي هذا المسعى بدأ نشاطه بتوقيع بيان “محاربة معاداة السامية الجديدة” مع 250 شخصية فرنسية تتقاسم كلها كراهية العرب والمسلمين وتمجد اليهود وإسرائيل، يتقدمهم نيكولا ساركوزي وهنري ليفي ومدير مجلة ” hebdo libéré” المعروفة بعدائها لكل ما يمت بصلة للإسلام، وهو البيان الذي يدعو من بين ما يدعو إليه إلى إلغاء كل الآيات القرآنية التي تتحدث عن اليهود والنصارى وسحبها من المصحف الشريف!…
وحظي صنصال بمعاملة خاصة وبتوصيات دائمة من طرف كل السفراء الفرنسيين الذين تعاقبوا على الجزائر، مكّنته أن يكون صديقا لساركوزي ويقدم له، كما يقول، نصائح بطرد كل الشباب الجزائريين المهاجرين (الحراقة) لأنهم يمثلون خطرا على فرنسا التي يهيم بحبها ويخشى عليها الانكسار أمام هذا (الطوفان البشري الجزائري ).
وكان من نتائج تحركاته وأمثاله أن الرئيس ماكرون صرح ذات مرة قائلا: إن العلاقات الفرنسية الجزائرية لن تتحسن إلا بذهاب جيل نوفمبر الذي “لا زال يقتات على إرث الذاكرة”!!!، و هو بهذا يمني النفس بأن جيل الاستقلال سيتخلى عن عقيدته الثورية وحقه في تجريم الاستعمار وعن مطالبة فرنسا بالاعتراف بجرائمها وتطهير مواقع التجارب النووية وبالاعتذار والتعويض.
وهنا ارتكب صنصال الخطيئة التي لا يغفرها الجزائري، فكانت زيارته للقدس المحتلة و”صلاته” أمام حائط البراق ( المبكى حسب التعبير الصهيوني) رغم أنه يقول ويكرر إنه ملحد، لكن التقرب من الصهاينة اقتضى ارتداء طاقيتهم والصلاة معهم ومثلهم.
هنا ندرك حرص الكيان الصهيوني على حماية عملائه و”الانتقام” ممن يفضحونهم، وجاءته فرصة الانتقام من الجزائر على مواقفها المعروفة ضده، وهو ما قد يُفسّر خلفية سفر صنصال إلى العاصمة الجزائرية في هذه الأيام، والذي لا أراه سفرا عاديا.
وأنا أرجح أنه كانت هناك عدّة أهداف، أهمها إهانة السلطات الجزائرية وتقديمها على أنها تعلن دعمها للقضية الفلسطينية لكنها لا تجرؤ على المساس بعملاء الصهيونية.
وكانت المفاجأة هي أن السلطات الجزائرية، والتي كانت تتابع تحركات صنصال، تعاملت معه كخائن لوطنه ولشعبه وألقت عليه القبض بمجرد أن وطأت قدماه أرض المطار.
وهنا نجد الهدف الثاني من تصرف صنصال، وهو إذكاء التهم ضد الجزائر بادعاء أنها تضطهد الكتاب والمثقفين، وبهذا ينتقم من الوزير الإسلامي الذي كفّ يده عن منصب لم يقدم فيه ما يوازي مرتبه الشهري، وقبل ذلك يسيئ أساسا إلى الجزائر التي تحملت إفرازاته عقودا وعقودا.
وكالعادة، جاء تحرك اليمين الفرنسي وكل المتصهينين هناك بكل هذا التشنج دفاعا عن سفيرهم الذي سقطت أقنعته، وكانت فرصة وجدها ماكرون للانتقام من الجزائر التي فضحت نفاقه، وبدأت في إغلاق صنبور الواردات الفرنسية، والتي كان القمح من أهمها.
لكن.
يا جبل ما يهزك ريح، ولقد جربنا أكثر من هجوم فرنسيٍّ في منتصف الستينيات بعد تأميم المناجم وفي بداية السبعينيات بعد التأميمات البترولية، وواجهنا الاستعمار القديم الجديد وقزّمنا كل تحركاته وهزمنا كل مناوراته.
لكن مشكلة الاستعمار هي أنه دائما تلميذ غبي.
التدوينة قالها الجنرال جياب: الاستعمار تلميذ غبي ظهرت أولاً على الحوار الجزائرية.