د/عطاء الله فشار

رمضان ليس مجرد شهر صيام وعبادة، بل هو مدرسة تربوية تحقق التوازن بين متطلبات الروح ومتطلبات الحضارة. فكما أن الفرد مطالب بالصيام تهذيبًا لنفسه، فإن الأمة مطالبة بتحقيق التوازن بين القيم الروحية ومتطلبات التطور المادي، حتى لا تقع في أحد طرفي الإفراط أو التفريط.

الإسلام دين وسطية، وقد جاء ليؤسس حضارة متوازنة تجمع بين الروح والمادة، وبين الفرد والجماعة، وبين الدنيا والآخرة. قال الله تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ (البقرة: 143). وهذه الوسطية تتجلى بوضوح في رمضان، حيث يُطلب من المسلم الصيام تهذيبًا لنفسه، لكنه في الوقت ذاته لا يُطلب منه الانقطاع عن العمل أو تعطيل عجلة الحياة.

في تاريخ المسلمين، لم يكن رمضان شهر الكسل والخمول، بل شهر الإنتاج والانتصارات. ففيه وقعت غزوة بدر التي غيرت مسار الدعوة الإسلامية، وفتح مكة الذي كان تتويجًا لنضال النبي وأصحابه. كما أنه كان شهر الاجتهاد العلمي، حيث استمر العلماء في تدريسهم وتأليفهم، وأنتجت الحضارة الإسلامية أعظم كنوزها الفكرية حتى في مواسم الصيام.

لكن التحدي اليوم يكمن في أن بعض المجتمعات الإسلامية اختزلت رمضان في ممارسات استهلاكية، حيث تحول إلى موسم للإفراط في الطعام والسهر واللهو، بدلًا من أن يكون محطة للتوازن وإعادة ترتيب الأولويات. يقول الشاعر:

رمضانُ زُرْتَنا بالخيرِ طُرًّا … فأنتَ لنا ربيعٌ مُزْهِرُ

إن التوازن الحضاري في رمضان يعني أن نعيد لهذا الشهر روحه الحقيقية، بحيث يكون وقتًا للعبادة والتأمل، لكنه لا يعطل عجلة العمل والإنتاج، ولا يحول المجتمعات إلى أسواق مفتوحة للاستهلاك المفرط. قال رسول الله ﷺ: “المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير” (رواه مسلم)، وهذا يشمل القوة الروحية والمادية معًا.

ويؤكد الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين على أهمية التوازن في العبادة والعمل، قائلًا: “ليس المقصود من الصوم مجرد الجوع والعطش، بل كسر الهوى، وترويض النفس، وإعدادها للسير إلى الله دون تعطيل مصالح الدنيا”. وهذا المعنى يعكس جوهر التوازن الحضاري في رمضان، حيث يكون الصيام وسيلة للارتقاء الروحي، دون أن يكون عائقًا أمام الإبداع والإنتاج.

لذلك، فإن رمضان فرصة للأمة الإسلامية لإعادة ضبط مسارها، بأن تستثمر أيامه في تحقيق التوازن بين الروح والمادة، وبين الفرد والمجتمع، وبين العبادة والعمل، بحيث ينعكس أثر الصيام على نهضة الأمة بأكملها، كما انعكس عبر التاريخ. فهل نعيد لرمضان معناه الحضاري الحقيقي؟

التدوينة رمضان والتوازن الحضاري ظهرت أولاً على الحوار الجزائرية.