د.فاروق طيفور

الرشد لغويًا وقرآنيًا هو حدود الهدى والحق والصواب والصلاح والنفع والعلم والبلوغ العقلي وسلامة الوجدان كما قال المختصون، وهذه العناصر لازمة – بل مكون أساس – لشخصية الإنسان المستخلف، بل هي المبادئ والقيم الأساسية التي تحكم بناء مفهوم الرشد في القرآن، حيث تعكس حالة الحرية، والفطرة التي يولد عليها الإنسان، والتي تتيح له الاختيار بين الحالات المتناقضة:

– (لا أملك لكم ضرًا ولا نفعًا)

– (سبيل الرشد وسبيل الغي)

– (المسلمون والقاسطون)

– (الضر والنفع) (العلم)

كما أنها تعكس حالة السعي والجهد الذي يبذله الإنسان المستخلف، وهي حالة المجاهدة الذاتية الداخلية (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا)، والعوامل الخارجية (العوائق المادية والفكرية) التي تحول دون وصول الإنسان إلى الهدى والحق أو تحرف مساره بدعاوٍ متعددة.

وهو المعنى الذي جعل أصحاب الكهف حين أووا إليه وهم في شدة البلاء والملاحقة أن يسألوا اللّه الرُشد دون أن  يسألوه النصر، ولا الظفر، ولا التمكين !!! فقالوا: “ربنا آتنا من لدُنكَ رحمة ًوهيئ لنا من أمرِنا رشدا” والجن لما سمعوا القرآن أول مرة قالوا: (إنّا سمِعنا قرآنا ًعجبا يهدى إلى الرُشد فآمنا به).

لذلك حين بلغ موسى الرجل الصالح لم يطلب منه إلاّ أمرا ًواحدا ًهو: “هل أتبعك على أن تُعلِـّمَن ِمِمّا عُلَِّمت َرُشداً”

ومن اللطائف الربانية أنك تجده سبحانه وتعالى يربط بين التقرب إليه بالدعاء والصيام، فعندما تنتهي آية فرضيته تأت آية الدعاء كفاصلة لتجيب السائلين عن قرب وبعد الله من العباد وتختم آية الدعاء بعبارة  لعلهم يرشدون”

ويأتي هذا التعليل حسب الدكتور محمد المجالي: “لعلهم يرشدون”، بعد تعليلين آخرين في آيات الصيام، هما “لعلكم تتقون”، و “لعلكم تشكرون”. وجاء بعد هذه الآية تعليل كالأول، لكن بصيغة “لعلهم يتقون”، فهي التقوى والشكر والرشد، كلها في آيات خمس متحدثة عن الصيام بما فيها آية الدعاء هذه. فلماذا تأتي هذه الآية هنا وسط آيات الصيام؟

أجاب العلماء بما يفيد أنّ مِن آكد أوقات استجابة الدعاء هو وقت الصيام. إذ الصيام غايته النهائية الوصول بصاحبه إلى التقوى، وهو مطالب بشكر الله تعالى على نعمه الكثيرة، وهناك ما له علاقة بتهذيب سلوك الإنسان واستشعار قيمته والعناية بروحه وصفاء نفسه، وهذا يتحقق مع الصيام بتلك الثقة بالله تعالى وحسن الظن به، واستشعار معيته وعنايته بعباده، فيَحْسُنُ الدعاء ويُتَأمَّلُ الرجاء بالله تعالى، وهذا من كمال رشد الإنسان. ولما كانت الجنة محفوفة بالمكاره والنار محفوفة بالشهوات فلا بد من رشد مرتبط بعقل صاف ونفس مطمئنة واثقة بربها، تحسن الظن به وتطلب العون منه، فالرشد شيء نتطلع إليه جميعا، وهو مما يساهم  في بنائه الصيام المهندس لصفاء النفس وارتقاء الروح، ليؤهلها لخالص الدعاء لله تعالى وحسن الظن به، حينها يتعرف العبد على الله عن قرب (وإذا سألك عبادي عندي فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان، فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون).

وبعد كل هذا، أما آن للصيام ومدرسته أن تخرّج أجيال الرشد والتقوى والمسؤولية، وتتحول الى سلوكات دائمة ولا تصبح مرتبطة بطقوس نؤديها في شهر من بين 12 شهر في السنة، حيث علو الهمة وصنع الإرادة ولجم النفس عن غيها وشهواتها، فوالله لو تستثمر هذه الحالة على طول العام وبالحد الأدنى لتغير حالنا إلى الأحسن والأفضل في كل المستويات.

ان وعي لعلهم يرشدون في نهاية آية الدعاء ووسط آيات الصيام تبين خط رفيع رابط بين عديد القيم والسلوكات التي تصل بنا إلى فهم جديد يرسم ويصمم وظيفة أقسام مدرسة رمضان وطبيعة الإنسان الذي تستهدف تخريجه في نهاية الشهر الفضيل، فهل يعي قومنا ذلك كما وعاها الذين من قبلنا حين قلصوا المسافة بين الإيمان والعمل فتحولوا إلى جيل التلقي للتنفيذ وليس للاستهلاك والتنمر، فصنعوا حضارة عالمية، فوعي “لعلهم يرشدون” يرسخ طرفي معادلة تقول: كلما كانت المسافة بين الإيمان والعمل قصيرة كلما حل الرشد (آمنوا وعملوا)، وكلما كانت المسافة بين الإيمان والعمل بعيدة حل الضياع والضلال والغي، وحالنا اليوم المتخلف والتابع سببه المباشر هو بعد ما نؤمن به عن ما نفعله حيث أصبحت ممارساتنا وأفعالنا تناقض معارفنا وإيماننا، فمتى نرشد لنبني مجتمعا راشدا وأمة راشدة وحكما راشدا.

هي رسالة لمن يهمهم الأمر  “لعلهم يرشدون”.

التدوينة وعي لعلهم (02): لعلهم يرشدون ظهرت أولاً على الحوار الجزائرية.