فاروق طيفور

كثيرة هي الآيات التي تختم بعبارة “لعلهم يعقلون” و”لعلكم تعقلون” و”أفلا تعقلون”، على اعتبار أنّ العقل هو آلة الإدراك والتمييز عند بني البشر، وبهذه الآلة فضّله الله تعالى على كثير ممّن خلق، قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) الإسراء/70.

ولقد وجّهنا الله تعالى إلى استخدام هذه الآلة النعمة من خلال الحثّ على التأمّل والتفكّر والتدبّر والنظر في السموات والأرض وما فيهما، قال تعالى: (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ) يونس/101.

وقد ورد فِعلُ العقل في القرآن الكريم في تسعةٍ وأربعين موضعًا، ولم يَرِدْ بشكلِ مصدر مطلقًا، وكل أفعال العقل تدلُّ على عملية الإدراك والتفكير والفهم لدى الإنسان، ويمكن حصر هذه الأفعال بما يلي:

أ) ورد فعل العقل بصيغة “تعقلون” في أربعٍ وعشرين موضعًا في القرآن؛ منها قوله – تعالى -:﴿ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 242]، وقوله – تعالى -:﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [يوسف: 2].

ب) وورد بصيغة “يعقلون” في اثنينِ وعشرين موضعًا؛ منها قوله – تعالى -: ﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 171].

ج) وورد بصيغة “يعقِلُها” مرةً واحدة في قوله – تعالى -:﴿ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 43].

د) وورد بصيغة “نعقل” مرةً واحدة في قوله – تعالى -:﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [الملك: 10].

هـ) وورد بصيغة “عقَلوه” مرة واحدة في قوله – تعالى -:﴿ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 75].

و) وورد بلفظ القلب: ليدلَّ على العقل أيضًا في إحدى دلالاته، قال – تعالى -:﴿ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا ﴾ [الأعراف: 179]، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ [ق: 37].

والعقل حسب العقاد هو الفكر والنظر والبصر والتدبر والاعتبار والذكر والعلم، وسائر هذه الملكات الذهنية التي تتفق أحيانًا في المدلول ولكنها لا تستفيد من كلمة واحدة تغني عن سائر الكلمات الأخرى: (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ)، (وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ)، (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)، (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)، (وَهَٰذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا ۗ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ)، بهذه الآيات- وما جرى مجراها- تقررت ولا جرم فريضة التفكير في الإسلام.

وإذا كان العقل مناط التكاليف فلا عقاب على مجنون، فإن تذكير الله سبحانه وتعالى عندما يقرر الأوامر والنواهي أو يبرز مظاهر الإعجاز أو يحاجج الكفار في آيات الكون، بقوله سبحانه وتعالى (لعلهم يعقلون) (أفلا تعقلون)، إنما يستهدف بناء منظومة العقل المنتبه واليقظ، وليس العقل الكسول النائم والغافل عن الرسالة الكبرى التي كلف الله بها الإنسان ووهبه نعمة العقل ليقوم بوظيفة الاستخلاف في الأرض، فالعقل بهذا المعنى، كما قال الدكتور صالح بن عبد الله: هو رأس الفضائل، وينبوع الآداب، هو للدين أصل، وللدنيا عماد، وليس أفضل من أن يهب الله عبده عقلا راجحا، وتفكيرا مستقيما.

العقل قوة وغريزة اختص الله بها الإنسان، وفضله بها على سائر مخلوقاته، العقل قوة مدركة تقوم بوظائف كبرى، من ربط الأسباب بمسبباتها، وإدراك الغائب من الشاهد، والكليات من الجزئيات، والبدهيات من النظريات، والمصالح من المفاسد، والمنافع من المضار، والمستحسن من المستقبح، وإدراك المقاصد وحسن العواقب.

ومن التنبيهات الربانية أن القرآن الكريم ربط ربطا واضحا بين الأذن وحاسة السمع، والعين وحاسة البصر، والرجل وقدرة المشي، واليد وقوة البطش، في مثل قوله ـ عز شأنه -: {ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها}  (الأعراف: 195).

أما العقل فلم يربط بشيء من ذلك؛ بل ورد باسم وظيفته المدركة، وليس باسمه أو آلته، وفي هذا دلالة إلى أن العقل يمثل مجموع أدوات الإدراك من سمع وبصر وفؤاد وقلب وغيرها، فالعقل مرتبط بالإنسان كله، ومنتظم لحواسه كلها، فهو ملكة وظيفية يرتبط وجودها وعملها بوجود أدواتها، وعلى قدر حسن توظيف الإنسان لهذه الأدوات يكون تعقله في الأمور، ونضجه في الإدراك، مما يتبين معه ارتباط العقل بالأحداث والتصرفات، فالنظر العقلي عمل حي متحرك له أبعاده ومدلولاته التي ترتبط بالأشخاص، والأزمان، والأحداث، وكل حركات الحياة والأحياء، ولذلك كان العقل من شروط التكليف والاستخلاف والقيادة وهو مركز صناعة العلل والبراهين ومرجع تذكير الله للإنسان الجاحد والكافر بأن تميزه بالعقل عن سائر المخلوقات هو سر تكليفه بخلافة الأرض وقيادتها إذا تمكن من استخدام العقل في البناء والخير، أما إذا استخدمه في التدمير والشر فإن ذلك سيكون سببا مباشرا في نهاية قصة الإنسان، وهو سر آخر من أسرار استخدام عبارة ( لعلهم يعقلون).

وحالنا اليوم كمسلمين بالرغم من أن الله أمرنا باستخدام العقل لقيادة العالم إلا أننا تنكبنا الطريق وأصبحنا زبائن عند الغرب نلبس مما لا ننسج ونأكل مما لا ننتج، بل ونستخدم سلاح الأخر على المستوى العسكري والأمني والإعلامي والسيبراني، فأصبح يتحكم فينا وبعقول أبنائنا الذين يستثمر في قدراتهم الإبداعية وعقولهم المبتكرة، ورغم كل التحديات والإكراهات والاستهداف مازلنا لم نعقل بعد، ويصلح فينا عبارة “أفلا يعقلون”… لعلهم يعقلون.

التدوينة وعي لعلهم (03): لعلهم يعقلون ظهرت أولاً على الحوار الجزائرية.