د- عطاء الله فوشار

في زمن الحداثة المتسارعة، حيث تغزو التكنولوجيا كل جوانب الحياة، ويتحول الإنسان إلى ترس في آلة الإنتاج والاستهلاك، تبرز الحاجة إلى الروحانية كملاذ يعيد للإنسان توازنه، فالحداثة رغم ما قدمته من تطور علمي ومادي  أفرزت مشكلات وجودية، مثل الفراغ الروحي والاغتراب النفسي، مما جعل الإنسان يبحث عن معنى أعمق لحياته وسط زحام الآلات والشاشات.

 

الحداثة والفراغ الروحي

 

الحداثة جاءت بمفاهيم جديدة غيّرت من نظرة الإنسان للعالم، وأعلت من شأن العقل والعلم، لكنها في المقابل همّشت البعد الروحي. يقول الفيلسوف رينيه غينون، في كتابه أزمة العالم الحديث: “العالم الحديث مهووس بالمادة، لكنه فقد البوصلة الروحية التي توجه الإنسان نحو غايته الحقيقية”، وهذا ما نراه اليوم في انتشار القلق، والاكتئاب، والميل إلى العزلة رغم الازدهار التكنولوجي.

وفي هذا السياق، يبرز السؤال: كيف يمكن للروحانية أن تعيد التوازن للإنسان دون أن تتعارض مع الحداثة؟

 

 

الروحانية كحاجة إنسانية وليست رفاهية

 

الروحانية ليست نقيضًا للعقل أو العلم، بل هي حاجة وجودية، حتى في أشد المجتمعات ماديةً نجد نزوعًا داخليًا نحو الروح، سواء عبر التأمل، أو البحث عن معنى في الفنون، أو حتى من خلال الممارسات الدينية. يقول الفيلسوف ويليام جيمس، في كتابه أنواع التجربة الدينية: “الروحانية ليست ترفًا، بل هي البعد الذي يمنح الحياة قيمتها الحقيقية”.

 

الإسلام كدين يجمع بين الدنيا والآخرة قدّم نموذجًا متوازنًا للروحانية، حيث لم يدعُ إلى الانعزال عن الواقع، بل جعل للعبادة أثرًا عمليًا في حياة الإنسان. قال النبي ﷺ: “ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب” (متفق عليه)، وهذه القوة الداخلية هي جوهر الروحانية الحقيقية، التي تجعل الإنسان أكثر تحكمًا في ذاته، وأكثر تصالحًا مع واقعه.

 

الحداثة والروحانية: صراع أم تكامل؟

 

يعتقد البعض أن الحداثة تقف على النقيض من الروحانية، لكن الحقيقة أن هناك إمكانية لخلق تكامل بينهما. يمكن للإنسان أن يستفيد من إنجازات الحداثة دون أن يفقد هويته الروحية، وهذا ما تؤكده تجارب المجتمعات التي نجحت في المزج بين التطور المادي والقيم الروحية.

 

يقول الشاعر محمد إقبال:

عجبتُ لنورٍ تحتَ ظلِّ ظلامِ … ويُرجى به كشفُ الدُّجى في الأنامِ

 

فالحداثة بلا روحانية تصبح آلة بلا قلب، والروحانية بلا عقل تتحول إلى خرافة، ولكن التوازن بينهما يخلق إنسانًا قادرًا على التطور دون أن يفقد هويته، ومن هنا فإننا نسعى نحو روحانية أصيلة في عصر متغير.

ففي زمن الحداثة، لابد من إعادة تعريف الروحانية بحيث تصبح جزءًا من الحياة اليومية لا مجرد لحظات انعزال مؤقتة، وهذا يتطلب العودة إلى قيم التأمل، والتوازن، والوعي الذاتي، تمامًا كما كان الفلاسفة والعلماء عبر العصور يسعون إلى مزج العلم بالحكمة.

إن التحدي الحقيقي ليس في الاختيار بين الحداثة والروحانية، بل في إيجاد توازن يمنح الإنسان القوة ليعيش في العالم دون أن يفقد روحه.

وفي هذا يقول ابن القيم الجوزية في “زاد المعاد”: “الصيام يُربي الإرادة، ويُهذب النفس، ويُعين على تحقيق التوازن بين مطالب الروح والجسد”، وهذا يوضح كيف أن رمضان ليس مجرد امتناع عن الطعام، بل هو وسيلة لإعادة التوازن الداخلي للإنسان، مما ينعكس على حياته المادية والروحية معًا.

التدوينة الروحانية في زمن الحداثة ظهرت أولاً على الحوار الجزائرية.