د /عطاء الله فشار

لا يمكن الحديث عن رمضان دون أن تحضر القدس، فهي المدينة التي جمعت في أزقتها عبق التاريخ وألق الروحانية، وهي الأرض التي شهدت محطات بارزة في مسيرة الإسلام، وكانت قبلة المسلمين الأولى ومسرى النبي محمد ﷺ. وفي رمضان، تأخذ القدس مكانة خاصة، حيث تتعانق الروحانية مع معاني الصمود والمقاومة، ليصبح الشهر الفضيل ليس فقط مناسبة للعبادة، بل موسمًا لتجديد العهد مع الأرض والهوية.

 

رمضان والقدس في التاريخ الإسلامي

منذ أن دخلها الخليفة عمر بن الخطاب فاتحًا سنة 15هـ، ظلّت القدس تحتضن شهر رمضان كأحد مواسمها العظيمة، حيث يتوافد المسلمون إليها للصلاة في المسجد الأقصى، الذي بارك الله حوله. وفي رمضان من عام 583هـ، حقق صلاح الدين الأيوبي نصرًا تاريخيًا بتحرير القدس من الصليبيين بعد معركة حطين، وكان ذلك بعد صيامٍ وتضرع، ليكون النصر قرينًا للصبر والتقوى.

 

القدس في رمضان: روحانية تحت الحصار

اليوم، تأتي أيام رمضان على القدس وهي ترزح تحت الاحتلال، ومع ذلك، يظل الشهر الفضيل مناسبة لتأكيد الهوية الإسلامية والعربية للمدينة. مشاهد المصلين الذين يتوافدون إلى المسجد الأقصى رغم الحواجز العسكرية، وصلاة التراويح التي تصدح في الأرجاء، وموائد الإفطار التي تقام في ساحات الأقصى رغم المضايقات، كلها تؤكد أن رمضان ليس مجرد صيام عن الطعام، بل هو أيضًا تجسيد للإرادة والتمسك بالحق.

الاحتلال يسعى دائمًا لتقييد وصول المصلين إلى المسجد الأقصى في رمضان، ويقوم بتصعيد اعتداءاته، لكنه يفشل في كسر إرادة المقدسيين، الذين يزدادون تمسكًا بالمدينة ومقدساتها.

 

رمضان والقدس في الأدب والشعر

القدس في رمضان ألهمت العديد من الشعراء، فكتب عنها تميم البرغوثي قائلًا:

في القدسِ، أعمدةُ الرُخامِ الداكناتُ كأنَّ تعريقَ الرُّخامِ دخانُ

ونوافذٌ تعلو المساجدَ والكنائسَ، أمسكتْ بِظلالها… لو أُطْلِقتْ لَهَوَتْ

وفي رمضان، تكون القدس “نافذة السماء”، حيث يجتمع فيها الإيمان والصمود.

كما قال الشاعر أحمد مطر متحدثًا عن القدس كرمز للمقاومة:

أبكي.. وهل يجدي البكاءُ وأنتِ لي قدسٌ؟

وتنزفينَ ولا أراكِ على المدى تحيَيْنَ أو تُبْعَثْنَ في غَدْ!

 

رسائل رمضان من القدس إلى الأمة

رمضان في القدس هو رسالة للأمة الإسلامية بأن هذه المدينة ليست مجرد أرضٍ محتلة، بل هي رمزٌ للهوية والتاريخ، وأن الدفاع عنها هو جزء من الدفاع عن القيم الإسلامية. إن الرباط في المسجد الأقصى خلال الشهر الفضيل هو نوعٌ من الجهاد السلمي، حيث يبقى المقدسيون صامدين، رغم التضييق والمخاطر، ليؤكدوا أن الأقصى ليس مجرد مسجد، بل هو أمانة في عنق كل مسلم.

 

رمضان بوابة التحرير

كما كان رمضان شهرًا لانتصارات المسلمين عبر التاريخ، فإنه يظل اليوم رمزًا للأمل في تحرير القدس. وكما قال الشيخ راغب السرجاني: “لن تتحرر القدس إلا عندما يكون رمضان في حياة المسلمين كما كان في حياة الصحابة، شهرًا للعبادة والجهاد معًا”.

فهل يكون رمضان يومًا بوابة الفرج للقدس، كما كان في زمن صلاح الدين؟ إن صمود المقدسيين، وروحانية رمضان، وتاريخ الأمة، كلها تبشّر بأن الليل مهما طال، لا بد أن يعقبه فجرٌ جديد.

التدوينة رمضان والقدس: روحانية المقاومة وهوية الصمود ظهرت أولاً على الحوار الجزائرية.