د.فاروق طيفور

التفكر وسيلة العقل لاتخاذ القرار الذي يناسب الحالة التي يكون فيها الإنسان والتفكير نعمة وهبها الله للإنسان من أجل خلافته في الأرض، فلم يختزل التفكير فقط في البحث عن حل مشكلة ندرة الموارد أو تنويع أدوات الصراع أو توسيع المعارف واكتشاف نواميس الكون، بل اعتبر التفكير وسيلة للوصول إلى الإيمان العميق بالله وفهم سننه في الحياة. فكثيرة هي الآيات التي تدعو الإنسان إلى التأمل في خلق السموات والأرض، وتعاقب الليل والنهار، وأسرار النفس البشرية، ليصل إلى الحقيقة والإيمان الراسخ. لذلك كان التفكير والتأمل صفة أساسية في سيرة الأنبياء والرسل قبل بعثتهم وتكليفهم بالرسالة.

يقول الأستاذ العقاد: العقل الذي يفكر ويستخلص من تفكيره زبدة الرأي والروية، يعبر عنه القرآن الكريم بكلمات متعددة تشترك في المعنى أحيانًا وينفرد بعضها بمعناه على حسب السياق في أحيان أخرى، فهو الفكر والنظر والبصر والتدبر والاعتبار والذكر والعلم، وسائر هذه الملكات الذهنية التي تتفق أحيانًا في المدلول ولكنها لا تستفيد من كلمة واحدة تغني عن سائر الكلمات الأخرى: (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ)، (وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ)، (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)، (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)، (وَهَٰذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا ۗ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ)… بهذه الآيات- وما جرى مجراها- تقررت ولا جرم فريضة التفكير في الإسلام.

وقد ورد العقل بلفظ الفكر الذي هو نتاج العقل، ورد بصيغة “فكَّر” مرة واحدة في قوله – تعالى -: ﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ﴾ [المدثر: 18 – 19]، وورد بصيغة “تتفكَّروا” مرة واحدة أيضًا في قوله – تعالى -: ﴿أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا﴾ [سبأ: 46]، وورد بصيغة ” تتفكَّرون” 3 مرات، منها قوله – تعالى -: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾ [البقرة: 219]، وورد بصيغة “يتفكَّروا” مرتين، منها قوله – تعالى -: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ﴾ [الروم: 8]، وورد بصيغة “يتفكَّرون” إحدى عشرة مرة، منها قوله – تعالى -: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الرعد: 3].

وورد العقل والفكر بلفظ القلب في القرآن الكريم في 144 موضعًا.

حيث تمثل مادة “التفكر” في الإسلام، قرآنًا وسنة، مادة مدهشة ثرية كما قال  الدكتور محمد السنوسي، دين يجعل “التفكير” فريضة من فرائضه الحضارية، كما أوضح الأستاذ العقاد في كتابه المهم (التفكير فريضة إسلامية)!

فالإسلام  حسب قوله: يرتفع بالتفكر إلى مرتبة أن جعله مصدرًا من مصادر التعرف على الله تعالى ومشاهدةِ آثار قدرته، كما جعله مدخلاً للتعرف على كتابَيْ الله المقروء والمنظور، أي القرآن الكريم والكون الفسيح، فهو- أي التفكر- سبيل لاستجلاءِ معاني “الكتاب المنزَّل”، ولاستشكاف حقائق “الكتاب المبسوط”.

كيف لا وقد استخدم القرآن الكريم لفظ التفكير والتفكر في ثمانية عشر موضعًا بصيغة المضارع، للدلالة على أنه فعل مطلوب باستمرار، مثل قوله تعالى: {كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}  (يونس: 24). كما اعتبر التفكر من صفات أولي الألباب: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}  (آل عمران: 190، 191). جاء في تفسير ابن كثير: {لأولِي الألْبَابِ}  أَيِ: الْعُقُولِ التَّامَّةِ الذَّكِيَّةِ الَّتِي تُدْرِكُ الْأَشْيَاءَ بِحَقَائِقِهَا عَلَى جَلِيَّاتِهَا، وَلَيْسُوا كَالصُّمِّ البُكْم الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ.

فعن القرآن ورد قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}  (النحل: 44). وعن الكون ورد قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}  (الجاثية: 12، 13).

وعن التفكر في قصص السابقين قال سبحانه: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}  (الأعراف: 176). والتفكر في علاقة الزوجية وما فيها من سكن وتآلف: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}  (الروم: 21).

وفي هذا السياق قال السابقون: «الفكر يوجب الاعتبار ويؤمن العثار ويثمر الاستظهار»، «ما زال من أحسن الفكر»، «من طالت فكرته حسنت بصيرته» ، «كل يوم يفيدك عبرا أن أصبته فكرا»، «أصل السلامة من الزلل الفكر قبل الفعل والروية قبل الكلام» ، «الفكر في الخير يدعو إلى العمل به» .

وعندما نتحدث عن وعي لعلهم يتفكّرون إنما نقصد أنواعا أساسية من التفكير الذي يقود إلى الفعالية الحضارية وليس التفكير السفسطائي المتهافت الذي لا يحسن الا الجدل في القضايا التفصيلية ويعيش أصحابه في عصور ماقبل الرسالة، حاجتنا اليوم إلى أهل تفكير من نمط جديد يقرؤون القرآن والسنة و تراث الأمة قراءة مستبصرة تجعلهم يغترفون من كنوزه لبناء حضارة جديدة فيعالجون الاقضية المستجدة بوسائل وأدوات العصر ولايسكنون في تبعية للمعارف التقليدية ويستدعون كل مرة خلافات القرون الأولى ولا يعملون التفكير في عرض المقاربات التي تتدافع مع الأفكار الهدامة وتكشف زيفها وتنشر النور بلغة العصر فتنجذب إليه البشرية جمعاء لأن الرسالة المحمدية رسالة عالمية.

فحاجتنا اليوم في ظل تخلفنا عن الركب ماسة إلى تشكيل شبكات واسعة للمفكرين ومنظومات لتكوينهم وإكسابهم مهارات وعلوم ومعارف العصر واستحداث آليات لاستقطاب الموهوبين وتشكيل فضاءات وحلقات ومجالس وأندية للتفاكر والحوار بكل أنواع التفكير سواء كان إبداعيا أو نقديا أو استراتيجيا أو تباينيا أو إدراك الإدراك إو تفكير التفكير أو تنظير التفكير.

فوعي لعلهم يتفكّرون يتجاوز التفكير في إدارة وتدبير شؤون الدنيا إلى التفكير في مقامنا في الآخرة دار الخلود، وهو المسار والقرار الذي ينبغي أن يتخذه كل إنسان ليعمل صالحا وخيرا ويتفكر في خلق السموات والأرض ويلهج بقوله ربما ماخلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار.

إن في ذلك لعبرة لقوم يتفكّرون، لعلهم يتفكّرون.

التدوينة وعي لعلهم (04)… لعلهم يتفكّرون ظهرت أولاً على الحوار الجزائرية.