د.فاروق طيفور

ومما يذكر هنا هو إشارة الشيخ السعدي في تفسيره للآية {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}.

حيث يقول: لما ذكر فيما تقدم أنه يبعث {فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا}  ذكر ذلك أيضا هنا، وخص منهم هذا الرسول الكريم فقال: {وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ}  أي: على أمتك تشهد عليهم بالخير والشر، وهذا من كمال عدل الله تعالى أن كل رسول يشهد على أمته لأنه أعظم اطلاعا من غيره على أعمال أمته، وأعدل وأشفق من أن يشهد عليهم إلا بما يستحقون.

وهذا كقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}

وقال تعالى أيضا: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأرْضُ}.

عندما نتحدث عن هذه المهمة والوظيفة الكبرى التي وهبها الله لهذه الأمة، إنما نستهدف قيامها بالمساهمة في التشكيل الثقافي، والوعي الحضاري، واسترداد الدور في الشهود الحضاري والحضور الإنساني، كنا ذهب الى ذلك الدكتور عبد المجيد النجار، وإعادة تأهيلها لتكون محلا لشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم عليها، ومن ثم تتمتع بصفة المعيارية التي تجعلها مؤهلة، لأن تكون شهيدة على الناس، تسهم بمعالجة أزمة الحضارة الإنسانية اليوم، مهتدية في ذلك بقيمها ومرجعيتها وتجربتها الإنسانية التاريخية، بعد هـذا التيه من الغياب والشتات والتراجع الحضاري.

وقد فصل في ذلك الدكتور عبيد حسنة بقوله: إن الوعي بالذات، والعكوف عليها، وتحديد إصاباتها، ووضع البرامج والخطط لانتشالها، وإعادة إخراجها لمعاودة الشهود واستئناف الدور للانتقال من الشهود الذاتي إلى الشهود الإنساني في ضوء قيم ومعايير الكتاب والسنة، هـو الخطوة الأولى على طريق الشهود الحضاري والقيام بأمانة الاستخلاف والعمران وإلحاق الرحمة بالعالمين، الغاية التي من أجلها جاءت الشريعة.

وما لم نتحقق بالشهود على الذات، حقيقة لا ادعاء، فسوف نستمر في طحن الماء والحراثة في البحر، والمراوحة في أمكنتنا، وإجهاد أنفسنا بلا طائل.

فطالما نحن مفتقرون للشهادة على الذات ومعايرتها بالقيم في الكتاب والسنة وخصائص خير القرون، فسنبقى عاجزين عن الشهادة الحضارية على الناس.

وقد يكون من البدهيات القول: بأن إعادة بناء الذات، وتأهيلها، باسترداد مقومات الشهادة على الذات لتصبح قادرة وقائمة بالشهادة على (الآخر)، أو ممارسة مهمة الشهود الحضاري، لا يتحقق بالرغبات والأمنيات وبمزيد من الحماس والتوثب والحشد والخطب، وإنما لا بد له من توفير التخصصات في المجالات المعرفية المتنوعة والمتعددة، وإبداع المناهج والبرامج الدقيقة، واختيار أدوات البحث، وتقويم النتائج وقياسها، واكتشاف مواطن الخلل ومعالجتها بجرأة وشجاعة.

والشهود الحضاري سواء أكان على الذات أو على (الآخر)، يتطلب قيما ومبادئ ومعايير ثابتة، واضحة ومنضبطة وواقعية، بعيدة عن الهوى وجموح الخيال، وليست من وضع الإنسان حتى لا يصبح الإنسان المعيار ومحل المعايرة في الوقت نفسه، وخالدة مجردة عن حدود الزمان والمكان، مرنة، قادرة على التنزل والتوليد والمعايرة في كل زمان ومكان.

فمهمة الشهادة على الناس وعلينا من قبل رسول الأمة محمد صلى الله عليه وسلم يكتسي هذه الأهمية وليس مجرد مرتبة أو وصف أو مقام للتفاخر وذكر المناقب والأمجاد بقدر ماهو واجب ومسؤولية لها حسابها الخاص يوم القيامة، فالانتماء إلى الأمة الوسط الشاهدة ليس ألقاب أو أوسمة تعلق بقدر ماهي واجبات تحقق الإنجاز والخيرية المشروطة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله.

وانظر إلى كرم الله سبحانه وتعالى، عندما أعد للذين يقومون بالشهادة على الناس الدرجات العليا لأنه يعلم سبحانه حجم التضحيات التي يقدمها هؤلاء في سبيل تحقيق متطلبات الشهادة بكل معانيها، حيث قال سبحانه:

(إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ).

قال القرطبي: “ويتخذ منكم شهداء” أي يكرمكم بالشهادة، أي ليقتل قوم فيكونوا شهداء على الناس بأعمالهم. وقيل: لهذا قيل شهيد: وقيل: سمي شهيدا لأنه مشهود له بالجنة وقيل: سمي شهيدا لأن أرواحهم احتضرت دار السلام، لأنهم أحياء عند ربهم، وأرواح غيرهم لا تصل إلى الجنة، فالشهيد بمعنى الشاهد أي الحاضر للجنة.

وهنالك مظهر آخر من الشهادة التي وردت في القرآن الكريم تتعلق بتدبير الشأن العام والمسؤولية التي تترتب على الغياب عنها بحجج كثيرة وفسح الطريق أمام الفساد والفاسدين والظلم والظالمين والاستبداد والمستبدين والتزوير والمزورين لإرادة الأمة، يتعلق الأمر بكتمان الشهادة التي وصفها الله تعالى بآثم القلب حيث قال تعالى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ ۚ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}، {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا}، {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}.

ونظرا لأهمية وقيمة هذا المستوى من الفضل والاصطفاء والإيمان العميق يتمنون أن يكتبهم الله من الشاهدين

((وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين)).

نقول ذلك ونذكر به لعلنا نكتب من الشاهدين ولعلهم يشهدون.

التدوينة وعي لعلهم (05): لعلهم يشهدون (02) ظهرت أولاً على الحوار الجزائرية.