ـ نحن بحاجة إلى فتح حفريات لاكتشاف جوانب أخرى من حياة الأمير عبد القادر

 

ـ تصنيف الزي النسوي للشرق الجزائري في “اليونسكو” انتصار للدبلوماسية الثقافية الجزائرية

 

ـ كل عناصر التراث ذات أولوية لتصنيفها وطنيا ثم عالميا

 

يتحدث الباحث الدكتور عبد القادر دحدوح في هذا الحوار عن تتويجه بجائزة أحسن كتاب علمي في التاريخ والآثار بالوطن العربي لعام 2024، وأهمية الكتابات التاريخية وجهود الدولة الجزائرية في حماية وصون التراث.

 

حاورته: حنان حملاوي

 

توجت مؤخرا بجائزة أحسن كتاب علمي في التاريخ والآثار بالوطن العربي لعام 2024، حدثنا عن هذا التتويج؟

أولا، اسمحوا لي أن أقدم شكري الجزيل لكم وللجريدة لمنحكم لي هذه الفرصة للحديث عن تتويجي بجائزة أفضل كتاب علمي في الآثار والتراث بالوطن العربي لعام 2024 عن المجلس العربي للاتحاد العام للآثاريين العرب المنضوي تحت اتحاد الجامعات العربية المنبثق عن الجامعة العربية والتعريف بالكتاب الفائز بالجائزة، حيث كان المجلس العربي للاتحاد العام للآثاريين العرب وككل سنة يعلن عن فتح باب الترشح للجوائز التي يشرف عليها، وقد قدمت ملف ترشحي بتزكية من إدارة المركز الجامعي تيبازة بكتاب “سكة الأمير عبد القادر الجزائري وبناء السيادة الوطنية”، وهو الكتاب الذي حظي بموافقة لجنة التحكيم القائمة على الجائزة عن جدارة بإقرار اللجنة، مع العلم أن الكتاب صدر أواخر سنة 2023 عن دار نوميديا للطبع والنشر والتوزيع، بدعم من وزارة الثقافة والفنون بمناسبة الذكرى الستين لاسترجاع السادة الوطنية.

 

ماهي أهم القضايا التي تناولهاسكة الأمير عبد القادر الجزائري وبناء السيادة الوطنية؟

يتناول كتاب “سكة الأمير عبد القادر الجزائري وبناء السيادة الوطنية ” شخصية كان لها إسهام كبير في بناء وتأسيس الدولة الجزائرية الحديثة، وفق منظور جزائري خالص بعيدا عن أي تدخل أو تبعية أجنبية، دولة جزائرية مستقلة عن الدولة العثمانية وعن غيرها من الكيانات الدولية، وقد رسخ الأمير عبد القادر هذا الهدف بضرب عملة جزائرية خالصة لها رمزية كبيرة وأهمية بالغة في التأكيد على استقلالية الجزائر، وذات سيادة وطنية، فقد جاءت سكته خالية من اسم السلطان العثماني، تحمل أسماءه وألقابه بصفته سلطان وأمير على حسب ما أوردته النصوص التاريخية، ما يرمز ـ بدون شك ولا ريب ـ إلى سيادة الجزائر واستقلالية دولة الأمير عبد القادر.

يتشكل الكتاب من مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة، المقدمة فيها عرض لأهمية الموضوع وإشكاليته، أما الفصل الأول فقد خصص للجانب التاريخي لدولة الأمير عبد القادر، وفيه نتحدث عن حياة الأمير عبد القادر من مولده إلى وفاته، مع التركيز أكثر على الجوانب التي تظهره كرجل مقاومة ودولة، وخاصة النظم الإدارية والعسكرية والاقتصادية، بما في ذلك المصادر المالية ووجهة الإنفاق ووضعية التجارة الداخلية والخارجية والأسعار، والسياسة التي اتخذها الاستعمار الفرنسي لتجفيف المصادر المالية لدولة الأمير عبد القادر.

الفصل الثاني خصص للدراسة الوصفية لنماذج من نقود الأمير عبد القادر، ونبدأ أولا بالمجموعة النقدية المحفوظة بالمتحف الوطني للآثار القديمة والفنون الإسلامية، ثم مجموعة المتحف الوطني زبانة بوهران، ثم متحف سيرتا بقسنطينة، والمتحف البلدي ببرج الأمير عبد القادر بتيسمسيلت، ثم المجموعة المحفوظة بمتحف المكتبة الوطنية بباريس، دراسة تقدم فيها بطاقات تقنية عن أهم النماذج، وصفا وصورة.

أما الفصل الثالث فقد خصصناه للدراسة التحليلية، وفيه تطرقنا إلى تحديد الإطار التاريخي لسك عملة الأمير عبد القادر، وتحديد أماكن دور الضرب التي كانت تتم بها العملية، ومقارنة وتحليل أوزان النقود وشكلها ومضامينها الكتابية والزخرفية بنقود العالم الإسلامي السابقة والمعاصرة لها، لتحديد المعاني الرمزية في سكة الأمير وبيان خصوصيتها عن غيرها من النقود، ومدى إسهامها في إبراز معالم السيادة الوطنية.

لنختم الكتاب بخاتمة عرضنا فيها مختلف النتائج المتوصل إليها من خلال البحث، وقد دعمنا الكتاب بصور للعديد من النماذج التي تخص سكة الأمير عبد القادر، خاصة صور النقود المتواجدة بمتحف المكتبة الوطنية بباريس.

 

ماهي أهمية مثل هذه المؤلفات خاصة مع الهجمات التي تتعرض لها الجزائر والتصريحات حول التشكيك في تاريخها؟

إن تاريخ الجزائر موغل في القدم بما يزيد عن 2,4 مليون سنة من الزمن، تاريخ حافل بالأمجاد والبطولات والأحداث والحضارات التي عمرت وطننا الغالي عبر العصور، وهي الحقائق المسجلة في المصادر التاريخية منذ العصور القديمة بلغات إغريقية ولاتينية وصولا إلى اللغة العربية والعثمانية والفرنسية وغيرها من اللغات، فضلا عن الشواهد الأثرية التي لاتزال صامدة ماثلة إلى يومنا هذا شاهدة على مدى عراقة أمتنا وعلى ثراء عطائها الحضاري عبر التاريخ، ومنه فإنه لا يمكن تصور هذا الزخم التاريخي والحضاري دون أن يقابله اهتمام بتدوينه والبحث فيه ونقله إلى الأجيال القادمة، لتتشبع بمعالم تماسك أمتنا الجزائرية ووحدة ترابنا الوطني، من خلال غرس قيم التضحية في سبيل الوطن التي قدمها أبطال الجزائر عبر مختلف العصور.

إن دعم الكتابة التاريخية والأبحاث الأثرية والتراثية عامة هو حماية للذاكرة الوطنية، وصون لمعالم الهوية الوطنية، وهو السبيل الوحيد لكشف أي محاولة تهدف إلى خلق التفرقة بين أفراد أمتنا، مهما كانت دواعي تلك المحاولات، عرقية كانت أو دينية أو جهوية، فالتاريخ يكشف بأن الجزائريين لم يخرجوا الاستعمار الروماني والوندالي والبيزنطي والفرنسي إلا بعد تمسكهم بوطنهم ووحدة صفوفهم عبر التاريخ.

 

 

ما رأيك فيما كتب عن الأمير، هل أنصفته هذه الكتابات؟

بالرغم من الكتب والمؤلفات والمقالات التي كتبت عن الأمير عبد القادر، والتي مست جوانب مختلفة من حياته كرجل مقاومة، أو شاعر، أو عالم متصوف، إلا أن هناك جوانب ومسائل كثيرة تحتاج إلى أبحاث معمقة تعتمد على وثائق ومخطوطات لم تر النور بعد، سواء تلك التي نهبت من مكتبته بعد سقوط الزمالة أو الوثائق والمراسلات التي كانت ترسل بين الأمير والولاة وأعيان القبائل وغيرهم، وهي وثائق في غاية الأهمية يمكنها أن تثري المعرفة والكتابة التاريخية حول الأمير عبد القادر.

ومن ناحية أخرى، هناك الجانب المادي من تراث الأمير عبد القادر الذي هو بحاجة ماسة إلى استخراجه من باطن الأرض بكل من تاقدمت عاصمة الأمير وسبدو وسعيدة وبوغار وبوخرشفة وبرج حمزة وبرج سيباو وغيرها من القلاع والحصون التي شيدها الأمير عبد القادر وأصبحت أطلالا لا تزال ماثلة آثارها إلى يومنا هذا، وعليه فإن هذه المواقع هي بحاجة إلى فتح حفريات فيها، على غرار الحفرية التي أقيمت في قلعة تازة بولاية تيسمسيلت، والتي استخرجت على إثرها بقايا أثرية عديدة معمارية ومصنوعات فخارية ومعدنية ونقود وغيرها. إن استكشاف هذه المواقع الأثرية، من دون شك، سيساهم في معرفة جوانب أخرى من حياة الأمير عبد القادر والدولة الجزائرية في بداية تشكلها خلال العصر الحديث.

 

 

تم تصنيف الزي التقليدي للشرق الجزائري في قائمة اليونسكو، ماتعليقم، وماهي أهمية الأمر؟

لا شك أن تصنيف الزي النسوي للشرق الجزائري الكبير ضمن قائمة التراث الثقافي غير المادي للإنسانية من قبل منظمة اليونيسكو في دورتها الأخيرة المنعقدة بدولة باراغواي، هو حماية لتراثنا الثقافي وصون لأمننا الثقافي، وهو انتصار للدبلوماسية الثقافية الجزائرية، وهو الملف الذي يشمل المعارف والمهارات المرتبطة بصناعة وتزيين القندورة والملحفة المطرزة، وضمن هذا الزي تدخل الصدرية أو القميص والعمامة والمنديل والحزام وغيرها من أنواع اللباس، فضلا عن مجوهرات التزيين بما فيها الأقراط والسلاسل والقلائد والأساور وغيرها، وهو الزي الذي غالبا ما ترتديه النسوة بالشرق الجزائري الكبير في الاحتفالات والمناسبات والولائم والأعراس على الخصوص.

إن تسجيل هذا العنصر ضمن القائمة العالمية للتراث الثقافي غير المادي للإنسانية سيعزز من حماية هذه العناصر التراثية ويكسبها دفعا أكبر للتمسك بها باعتبارها أحد مقومات الهوية الجزائرية، ومن دون شك هذا سيكون له أيضا مردود اقتصادي على الورش الحرفية التي تشتغل في حرفة خياطة وطرز هذه الألبسة أو صناعة الحلي الذي يرتبط بها.

 

 

كيف تقيم جهود الجزائر في هذا الأمر؟

تسخر الدولة الجزائرية العديد من المؤسسات والآليات القانونية لحماية تراثنا الثقافي غير المادي، حيث تأتي في مقدمة هذه المؤسسات وزارة الثقافة والفنون وما يتبعها من مؤسسات تحت وصايتها، خاصة مديريات ودور ومراكز الثقافة، والمتاحف ومراكز التفسير، والمكتبات، ومراكز المخطوطات، ودواوين الحظائر الثقافية، الديوان الوطني للثقافة والاعلام، الديوان الوطني لحقوق الملكية الفكرية، المركز الوطني للبحث في عصور ما قبل التاريخ وعلم الإنسان والتاريخ وغيرها من المؤسسات الثقافية. كما تشرف وزارة السياحة والصناعات التقليدية على جانب مهم من التراث الثقافي غير المادي المرتبط بالحرف والصناعات التقليدية التي تشمل عناصر عديدة من مكونات التراث الثقافي غير المادي، وقد سخرت الدولة لهذا الجانب عدة مؤسسات وهيئات تكوين وتسيير، على غرار الوكالة الوطنية للصناعة التقليدية، الغرفة الوطنية للصناعة التقليدية والحرف، والغرف الجهوية وتعاونيات الصناعة والحرف التقليدية وغيرها.

وزارة التعليم العالي والبحث العلمي تقدم جهودا كبيرة في التكوين والبحث في مجالات عديدة تخص التراث الثقافي غير المادي، حيث يوجد المركز الوطني للبحث في الأنثربولوجيا الاجتماعية والثقافية بوهران، وعدة كليات وأقسام خاصة بالفنون والآداب والثقافة الشعبية والمسرح والسينما، فضلا عن عدد معتبر من مخابر البحث التي تنشط في هذا المجال.

وزارة التكوين المهني من خلال مراكز ومعاهد التكوين المهني هي الأخرى تساهم مساهمة كبيرة في التكوين ضمن عدة مجالات حرفية تخص التراث والفن والثقافة والحرف التقليدية بمختلف مجالاتها.

إن هذه المؤسسات وغيرها، فضلا عن الجمعيات الثقافية والفنية، كلها تساهم مجتمعة في الحفاظ على تراثنا الثقافي غير المادي كل من زاويته وموقعه وإمكانيته وإطاره القانوني، وهي تشهد على مدى اهتمام الدولة بهذا الجانب من تراثنا الثقافي.

 

 

وماهي العناصر التي ترى أنها تكتسي أهمية للاشتغال عليها ومحاولة تصنيفها؟

في الحقيقة كل عناصر التراث الثقافي الجزائري ذات أولوية لتصنيفها تراثا وطنيا كأول خطوة ثم تسجيلها ضمن قائمة التراث العالمي للتراث الثقافي غير المادي، ومع ذلك يمكن القول بأنه فعلا يمكن أن تشكل بعض العناصر أولوية أكثر من غيرها، خاصة العناصر التي لا يزال النسبة الغالبة من الجزائريين تتبناها وتحافظ عليها وتستمر في ممارستها إلى يومنا هذا، على غرار حرفة صناعة الفخار والخزف والزليج، صناعة الزرابي، الزي الرجالي: البرنوس والقشابية وما يرتبط بها من مهارات وممارسات في حياكتها وغيرها، الألعاب الشعبية، الاحتفال برأس السنة الأمازيغية وما يرتبط به من ممارسات ومعارف وأطباق تقليدية، الفروسية وما يرتبط بها من صناعة السروج وتربية الخيل وسياستها، وصناعة البندقية والرماية وغيرها، فن الأغنية الشعبية بمختلف طبوعها الموسيقية وغيرها من العناصر التي يزخر بها تراثنا الثقافي غير المادي.

التدوينة توج بجائزة أحسن كتاب في التاريخ والآثار بالوطن العربي.. الباحث عبد القادر دحدوح لـ”الحوار”: دعم “الكتابة التاريخية” و”الأبحاث الأثرية” حماية للذاكرة الوطنية ظهرت أولاً على الحوار الجزائرية.