في كتابه «اغتصاب العقل»، يسلط جوستاف لوبون الضوء على ظاهرة مؤثرة تتعلق بتحولات العقل البشري، في ظل سعي القوى الثقافية والسياسية للسيطرة على الأفكار وتحويل الأفراد إلى أدوات استجابة تلقائية. هذا التلاعب بالعقول هو تحدٍ كبير لإحدى أعظم نعم الله على الإنسان: حرية العقل والفكر، وهي التي كرم الله بها الإنسان وجعلها مناط الاستخلاف في الأرض، كما جاء في قوله تعالى: «ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً» (الإسراء: 70). لكن، حينما يتحول العقل إلى أداة توجهها قوى خارجية، تضيع هذه الكرامة ويتبدد هذا التكريم.
في هذا السياق، يشير لوبون إلى أن السيطرة على الأفكار تتم عبر الإعلام، الذي يُستخدم في زرع آراء وأيديولوجيات معينة. وهذا يمكن اعتباره نوعاً من «اللغو» الذي نبه القرآن إلى خطره، حيث يقول الله تعالى: «وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم» (النساء: 83). فالتسرع في نشر الأخبار دون تحقق يخلق حالة من الفوضى الفكرية والتضليل، مما يسهل التلاعب بالناس وتوجيههم.
التلاعب بالعقل لا يقتصر فقط على الإعلام، بل يتعداه إلى التكنولوجيا الحديثة والذكاء الاصطناعي، الذي بات قادراً على توجيه السلوكيات. يرى لوبون أن تحليل البيانات الكبيرة أصبح أداة لاستهداف الأفراد برسائل تتلاءم مع شخصياتهم، مما يؤدي إلى إضعاف قدرتهم على اتخاذ قرارات حرة. هذا التوجيه الخفي يذكرنا بما جاء في قوله تعالى: «ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين» (البقرة: 208). فالخطوات الصغيرة والمتكررة التي يتعرض لها العقل عبر هذه الأدوات قد تؤدي في النهاية إلى تغييب الإرادة الحرة، والانقياد بشكل غير مباشر نحو ما يمليه الإعلام أو التكنولوجيا.
التواصل الاجتماعي، بدوره، هو ساحة أخرى تمارس فيها السيطرة على العقول عبر الرسائل الموجهة والإشاعات، وهو ما يمكن أن يُدخل الأفراد في دائرة من التضليل والغفلة. وقد جاء في القرآن الكريم تحذير من هذه الفتنة، حيث يقول تعالى: «يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين» (الحجرات: 6). فعدم التبين والتثبت من المعلومات يؤدي إلى انقسام المجتمع، وتوجيهه نحو أيديولوجيات وقيم قد تكون مغلوطة.
ويتطرق لوبون إلى نظرية المؤامرة التي تقول بأن هناك قوى خفية تسعى للسيطرة على العقول لتحقيق مآرب خاصة. هذه النظرية قد تكون محقة في بعض جوانبها، ولكن الخطر الحقيقي يكمن في اتباع هذه الأفكار دون تحقيق أو تدقيق. لقد أوصى القرآن باستخدام العقل والحكمة في مواجهة التحديات، حيث جاء في قوله تعالى: «قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا» (سبأ: 46). إن اتباع الفهم السليم والتأمل العميق هو السبيل لكشف الحقائق والابتعاد عن الانخداع بنظريات قد تكون مضللة.
في ختام كتابه، يشدد لوبون على أهمية الحفاظ على حرية التفكير، ويذكر بأن ذلك يمكن تحقيقه من خلال تعزيز الوعي الذاتي والتفكير النقدي. وقد جاء في القرآن الكريم إشارات عدة تحث على التفكر والتدبر، مثل قوله تعالى: «أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها» (محمد: 24). إن الحفاظ على حرية العقل هو التزام ديني وأخلاقي، يساعد الأفراد على رفض التضليل والانقياد الأعمى، والتمسك بالقيم الإنسانية الأصيلة.
وفي ظل التحديات العالمية الحالية، تظهر قيمة الفكر القرآني الذي يحث على التثبت والتحقق، ويدعو إلى تحرير العقل من قيود الجهل والخداع. إن اتباع تعاليم القرآن والسعي لزياد