في واحدة من ليالي بيروت الصيفية، وتحديدا على شرفة منزل أستاذي الجامعي د. جان كرم، كنا نقف سويا بعد فراغنا من تناول عشاء باذخ أعدته زوجته الأنيقة السيدة منى. كانت ربة المنزل، رقيقة الحاشية، قد أولمت بأطباق لبنانية لا يكاد مذاقها يغيب عن لساني منذ العام 2017، تحديدا طبق السمك الطرابلسي. على حافة الشرفة، الكائنة عند منطقة سجن رومية، أشار أستاذي بيده بعيدا؛ ليقول لي إن هناك، أطلال تل الزعتر، المخيم الذي شهِد مجزرة مروّعة في العام 1976، والتي راح ضحيتها آلاف الفلسطينيين على يد الكتائب المارونية والقوات السورية. تنهّدت تنهيدة طويلة هوَت بقلبي، قبل أن أتساءل إن كان ثمة شراب سحري أو دواء خارق أو حتى فقدان ذاكرة ولو مؤقت، بوسعه أن يُنسي الفلسطيني هذا التاريخ الدموي الزاخر، على امتداد الأعوام والجغرافيا. والأهم: إن كان بوسع الفلسطيني الصفح عن كل من أوقعوا به صنوف العذاب؟ التفتَ إليّ أستاذي، الذي أنهى درجة الدكتوراه من جامعة السوربون الفرنسية، قائلا «لو أننا كنا التقينا في زمان مضى، لربما كان كل منا يحمل سلاحه في وجه الآخر، عوضا عن تجاذب الحديث». قال لي، لربما لن يتناسب حجم الألم في الذكريات فيما سأقول لكِ، لكن قوات فلسطينية مسلحة في بيروت سلبتني فرحتي وأنا عائد بشهادة الدكتوراه. كانت ثمة حواجز أمنية منعتني من إكمال الطريق بسيارة الأجرة التي أقلّتني من المطار، فأكملت طريقا ليس بالقصير سيرا على القدمين، أجرّ حقيبتي الثقيلة، وشهادتي الوازنة، تحت زخ الرصاص. لم أجزم ليلتها إن كت سألتقي بعائلتي بعد رحلة العلم المضنية. لم أجزم في أي موقع كانت ستستقر الرصاصة في جسدي من مجموعة متناحرين «خارجين عن القانون». أغمضت عيناي ألما على موقف كهذا مرّ به أحد أكثر أساتذتي ذوقا في التعامل، وكياسة في الحديث، وقيافة في المظهر والحضور. وقبل هذا وذاك، قامة أكاديمية لها عليّ فضل التعليم. طال حديثنا ليلتها على تلك الشرفة، رغم رطوبة لبنان في ليالي أغسطس، وكان من الصعب على كل منا تجاوُزَ ذكريات شعبه الدموية في أعوام الاقتتال، لكنه ودّعني يومها قائلا إن حوارا كهذا ما كان ليجري في زمان مضى. تمنّى بعينين دامعتين لفلسطين السلامة، ولأهلها الطمأنينة، وله ولعائلته صلاة قريبة في كنيسة القيامة، وتمنيتُ له عمرا مديدا ومزيدا من العطاء الزخم أكاديميا وصحفيا، وتمنيت للبنان الراحة بعد هذه الرحلات المضنية التي لا تليق بحسناء مثلها. طوال الطريق نحو الفندق، كنت ألمح في الظلام شعبي في تل الزعتر، يتساقطون في البئر، برصاص القنّاصة، كلما حاول أحدهم الاقتراب لتعبئة دلوه بالماء. كنت أراهم يتضورون جوعا فيضطرون لأكل القطط للبقاء على قيد الحياة، كنت أسمع أصوات النساء المستنجدات، وعويل الأطفال. لقد حفرت فلسطين جروحا غدت قروحا مزمنة في حياة كل من أبنائها، إلى حد عصيّ على التداوي.