عمان- في بعض الأحيان، يجد الفرد نفسه "عالقا" في دوامة التبرير المستمر للآخرين. ويبرر غيابه عن مناسبة اجتماعية، أو انسحابه من نقاش، أو حتى شعوره تجاه أمر معين. أمور قد تبدو للغير مجرد تفاصيل عابرة، لكنها قد تتحول إلى عبء نفسي ثقيل على من يجد نفسه مضطرا دوما لتفسير أفعاله وتوضيح مواقفه.
نور، (29 عاما)، عاشت هذا العبء بشكل ملموس. كانت تظن أن صداقاتها التي تعود إلى سنوات الطفولة قائمة على التفاهم والانسجام، لكنها اكتشفت مع الوقت أن كل خطوة تخطوها باتت تحتاج إلى شرح مطول، وكأنها مطالبة بتقديم مبررات مستمرة.
تقول نور: "إذا لم أرد على رسالة في الوقت المناسب، أجد نفسي أمام استجواب طويل، وإذا رفضت دعوة للخروج، أتحول إلى موقف الدفاع وكأنني أدافع عن نفسي أمام القاضي".
نور تبين أن هذا الضغط جعلها تخشى كل تواصل جديد، مما حول علاقاتها من صداقة إلى مصدر دائم للتوتر.
أما سامر، وهو شاب في أوائل الثلاثينيات، فيعاني من المشكلة نفسها لكن ضمن نطاق عائلته، واصفا شعوره بأنه "محاصر" وسط توقعات عائلية لا تنتهي.
يروي سامر أنه منذ سنوات مراهقته وحتى الآن، كان عليه دائما عليه تبرير خياراته، يقول: "عندما اخترت دراسة الهندسة بدلا من الطب، تعرضت لسيل من التساؤلات التي لا تنتهي. وحتى بعد نجاحي في عملي، ما زلت مطالبا بتبرير قراراتي الكبيرة والصغيرة على حد سواء".
هذا التبرير المستمر أوجد فجوة بينه وبين عائلته، وجعله يشعر بأنه غير مفهوم أو مقبول كما هو، متسائلا: لماذا لا يستطيع الإنسان الاحتفاظ بخصوصيته؟
التبرير الدائم يترك أثرا كبيرا على الصحة النفسية والعلاقات الاجتماعية، حيث إن شعور الفرد بأنه مطالب باستمرار بتفسير تصرفاته، يسبب ضغطا نفسيا دائما وكبيرا عليه.
وبدوره اختصاصي علم النفس الدكتور موسى مطارنة يوضح أن هذا النوع من العلاقات قد يضعف ثقة الشخص بنفسه ويدفعه إلى التشكيك في قراراته وخياراته.
ويقول مطارنة، إن الإنسان بحاجة إلى مساحة يشعر فيها بأنه مقبول كما هو، دون الحاجة إلى تقديم أعذار أو شرح مستمر. غياب هذه المساحة يمكن أن يدفع الشخص إلى العزلة أو يتسبب بمشاكل نفسية مثل القلق والاكتئاب.
من جهة أخرى، يرى التربوي أحمد عبدالله أن التبرير المفرط غالبا ما يبدأ منذ الطفولة. ويوضح عندما يجبر الأطفال على شرح كل أفعالهم أو ينشأون في بيئات لا تحترم خصوصيتهم، يكبرون وهم يعتقدون أن هذا السلوك طبيعي. وعندما يربط الطفل قيمته برضا الآخرين عنه، فإنه يحمل معه هذا العبء إلى مرحلة البلوغ، ليصبح التبرير جزءا من حياته اليومية.
وفي السياق ذاته، يشير اختصاصي علم الاجتماع الدكتور حسين خزاعي إلى أن العلاقات الصحية تبنى على التفاهم والاحترام المتبادل، وليس على المطالبات المستمرة بالتوضيح. والأشخاص الذين يضطرون إلى التبرير بشكل دائم غالبا ما يجدون أنفسهم في علاقات غير متوازنة، يتحملون فيها العبء الأكبر من الجهد الذهني والعاطفي.
ووفق خزاعي فإن الطرف الآخر، الذي يطالب بالتبرير بشكل مستمر، قد يكون غير واع بتأثير سلوكه، لكنه يسهم دون قصد في خلق ديناميكية غير صحية في العلاقة.
لمواجهة هذا الضغط، يحتاج الفرد إلى اتخاذ خطوات واضحة لتحسين وضعه النفسي والاجتماعي، وفق خزاعي، ومن أبرز هذه الخطوات وضع حدود واضحة مع الآخرين والتحدث بصراحة حول مشاعره. ويوضح أنه إذا كان الشخص يشعر أن التبرير المستمر يؤثر على راحته النفسية، فمن المهم أن يتحلى بالشجاعة للتعبير عن ذلك بوضوح لمن حوله. فالعلاقات الحقيقية، كما يشير، لا ينبغي أن تكون ساحة لتقديم الأعذار، بل ملاذا آمنا يجد فيه الإنسان الدعم والتقبل دون شروط أو توضيحات.
وي