عمان- "الطريق إلى البيت أجمل من البيت"؛ حين قال الشاعر الراحل محمود درويش هذه العبارة، لم يكن يعلم أنها ستجسد فرحة الغزيين العائدين قبل أيام من جنوب غزة إلى شمالها، إلى بيوت تشبعت بدماء الشهداء، لكنها بقيت تنتظرهم، فرحين بما أتاهم الله من فضله. أشهر طويلة من حرب إبادة لم يشهد التاريخ قسوتها، واجهها الغزيون بصمود وثبات، متمسكين بوطنهم وأرضهم وحتى بركام بيوتهم وذكرياتهم التي لا تموت، أقسموا أن يعيدوا إعمارها "كما كانت وأجمل"، لتكون مشاهد العودة الأولى في تاريخ القضية الفلسطينية الأكثر حميمية، حين جمعت الإخوة والأبناء والأزواج، وحتى الأحياء برفات وقبور أحبائهم "الشهداء". انحنى ظهرها ولم تنحن عزيمتها، تلك الحاجة التي هرعت بأسرع ما استطاعت، متكئة على عصاها، زاحفة نحو الشمال إلى بيتها. في موسم هجرة لم يكن الأول، منذ النكبة والنكسة، مرورا بمراحل النزوح في الحرب الأخيرة، جسدت معنى التمسك بالأرض وحق العودة، حتى وإن كان إلى ركام البيت. "المرة الأولى كان نزوجا، والآن نحن عائدون، ولن نخرج أبدا". بينما غزي آخر، لم تنسه فرحة العودة قسوة الأيام التي عاشها خلال الحرب، احتضن قطتيه اللتين رافقتاه في نزوحه إلى الجنوب، ليعود بهما الآن إلى الشمال، على أمل لقاء الأحبة الذين افترق عنهم منذ ما يقارب 14 شهرا. أما الصحفيون والإعلاميون الذين غطوا أحداث الحرب، فكان لهم أيضا نصيب من لقاء أحبائهم، بعدما تشبثوا بمواقعهم بحثا عن الحقيقة، وبثها للعالم لكشف وحشية الحرب الإسرائيلية. كثير منهم تعمدوا الانعزال عن عائلاتهم لفترات طويلة، خوفا عليهم من التهديدات المباشرة التي تعرضوا لها. أنس الشريف وصالح جعفراوي، جمعهما لقاء مليء بالمحبة والشوق والفرح والحزن في آن واحد، بعد أن كان الشريف في الشمال والجعفراوي في الجنوب، يتبادلان الصور والفيديوهات والروايات عن حال أهل غزة. وها هما اليوم يلتقيان من جديد في الشمال، لبدء رحلة جديدة في نقل الحقيقة، وتوثيق صورة الشمال لنقلها للعالم اجمع. بينما كان مراسل قناة الجزيرة، محمد قريقع، يعيش لحظة لا توصف، وهو يلتقي بعائلته "فوق الركام"، بعد أن نزحت إلى الجنوب، بينما بقي هو في الشمال، يؤدي واجبه في كشف الحقيقة التي سعى الاحتلال إلى طمسها وتشويهها. وكانت العودة الأخيرة فرصة طال انتظارها ليحتضن ابنه “زين” بعد فراق دام سنة ونصف، في لحظة غمرتها السعادة والدموع. وفي مشهد آخر، جلست إحدى المسنات على كرسي متحرك، يدفعه أحد أحفادها، وهي تزغرد وتصفق وتغني بفرحة لا توصف بعودتها إلى الشمال. صورة التقطت في لحظة عفوية، لكنها حصدت مئات الآلاف من المشاهدات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، حيث تفاعل الناس معها بتعاطف كبير، معتبرين أن هذه المشاهد تجسد شوق الفلسطينيين لأرضهم مهما كانت الظروف. وكأن أمواجا بشرية انتظرت ساعة الصفر للعودة إلى بيوتها، رغم الدمار والمآسي. مشاهد لم تعهدها أجيال، عودة حتمية للأرض والوطن، رغم الحرب والجوع والموت. ومع ذلك، أصر الغزيون على العودة، وصورة هذا المشهد لفتت أنظار العالم، حيث شارع الرشيد يضم العائدون من الجنوب سيرا على الأقدام لمسافة تصل إلى 20 كيلومترا، للوصول إلى قلب الشمال. مشاعر متضاربة أيضا شاركها الغزيون عبر مقاطع البث التلفزيوني أو تلك التي بثت عبر مواقع التواصل الاجتماعي، والتي تميزت بالعفوية وحميمية اللقاء، وفيها لمسات الحزن العميق بعد استشهاد الأحبة والعودة إلى مصير حياة مجهول بإنتظار قرارات تعيد إعمار المكان، لدفن الشهداء من تحت الأنقاض، وإعادة الحياة لسكان القطاع بأكمله وليس فقط الشمال. يحملون ما تبقى من أمتعة أنهكها غبار الوقت،