د. حفظي اشتية
الاعتداء الصهيوني الغربي على فلسطين والمشرق العربي خلال الفترة الماضية الأخيرة، وما سبقها منذ قرن من الزمان، يهيّج المشاعر، ويبعث الأسى، ويعصف بالوجدان، فتثور في النفس أسئلة قديمة تتجدد وتشتعل في قلب كل حرّ عربي يرفض الهوان.
وعنوانها الرئيس: أين مشروعنا العربي الموحَّد مما جرى ويجري وسيجري؟؟
خمسة عشر شهرا كل شهر منها يعادل دهرا مرت علينا نعاني كابوسا عليه نصحو وننام، ونحن نرى نظاما غربيا ظالما يؤازر نظاما صهيونيا غاصبا معتديا في هجمة إبادية لم تشهد الدنيا مثيلا لها حتى في الحروب العالمية، ضحيتها فئة مقاومة محدودة العدد والعتاد، صدورها عامرة بالإيمان، غير مزيَّنة بالنياشين، وشعب أعزل محاصر برا وبحرا وجوا، وذنبهم أنهم صامدون في أرضهم، ثاروا على ظالمهم وناهب حقهم يوما واحدا من الزمان ليذيقوه نزرا يسيرا مما أذاقهم عبر قرن، وليعيقوا مخططاته العدوانية، وليذكّروا العالم بعدالة قضيتهم المغيّبة المنسيّة.
فأين كان دور المشروع العربي في كل ما جرى وكان؟
مع التقدير بلا حدود للمقاومة الشريفة في لبنان النبيل واليمن الوفيّ، لا بدّ أن نعترف بعجزنا عن الوفاء بأبجديات الواجب تجاه إخواننا.
نعم،تحركنا دبلوماسيا، تعاطفنا معهم، قدمنا المساعدات الغذائية والدوائية، بكينا، جافانا المنام، فقدنا طعم كل فرحة، تمسمرنا أمام الشاشات يقتلنا القهر وتغمرنا الحسرة، دعونا بصدق وحرقة....إلخ، لكن، هل يكفي هذا؟ هل يغطي عجزنا الفاضح عن نصرة إخواننا في موقف جليّ جريء واضح بأنّ ما يتعرضون له هو ظلم وعدوان وطغيان؟
سارع بعضنا إلى لوم الشعب المظلوم لأنه ثار على الاحتلال والذل والسجن والألم والحصار، لكنه لم يقدم له الحل البديل عن ذلك بعد سبع وسبعين سنة من نكبته وسرقة وطنه، وبعد غرقه في سراديب المفاوضات العبثية العقيمة التي لم تحقق له إلا مزيدا من ضياع الأرض والمقدسات والفرقة والانقسام.
يلام هذا الشعب المظلوم لأنه تقبَّل اليد التي امتدت إليه لمساعدته وتدريبه وتسليحه وتمكينه من أدنى أساسيات العدة لمواجهة عدوه، فيعاب عليه ذلك، ويُتّهم بأنه أصبح أداة تنفيذية لمشارع الآخرين، وينسى اللائمون أن يتساءلوا عن المشروع العربي البديل الذي كان يمكن أن يُغني هذا الشعب عن التطلع إلى غيره، فلو تُرك القطا ليلا لنام، ولو وجد هذا الشعب عدلا في هذا العالم، وأملا في تحقيق السلام لجنح إليه، وقد فعل، لكنه لم يجنِ من لهّاية حل الدولتين إلا اليباب والسراب.
نشعر بالغصّة نحن العرب، ونحن نرى أنفسنا وبلادنا المقدسة مجرد حشائش تدوسها فِيَلة أصحاب المشاريع التي تصطرع فوق أجسادنا المفرقة الممزقة المتهالكة.
فهل كان هواننا هذا من قلة عدد؟ أو صغر مساحة؟ أو ضعف إمكانات وضآلة ثروات؟!
14 مليون كم2 ، وحاولي نصف مليار من البشر، وموقع هو قلب الدنيا، ومجمع بحارها ومحيطاتها، وعقدة طرقها وتجارتها، وثروات هائلة لا تكاد تنضب، وفوائض مالية تستعصي على الحصر تسكن في بلاد الأعداء وتستقر، وأرض رسالات سماوية، ودين خُتمت به أديان البشرية، وتاريخ مجيد طبع دنيا العالم القديم كلها بطابعه الفريد.... ألا يكفي هذا، وغيره كثير، ليكون لنا مشروعنا الذي ينافس وينادد المشاريع الأخرى في منطقتنا وعلى أرضنا المنهوبة المتناهشة؟!
ألا يكفي كل هذا ليكون لنا صوت مسموع يصيح في وجه الظالمين: كفّوا أيديكم عن أهل فلسطين، وأعطوا هذا الشعب حقه السليب بدلا من الدعوة إلى تهجيره وتشريده من بقايا وطنه مجددا بالمكر والألاعيب؟!
ألا يكفي كل هذا ليكون لنا زعيم مهيب يصرخ في وجه الرئيس الأمريكي: قف عند حدك. كفاك ظلما؛ فالشعب الذي تتباكى عليه، أسلحتكم هي التي دمرت بلاده، وأنتم ملزمون بإعمارها حقا وعدلا، وربيبتكم ــ بالتنسيق معكم ــ هي التي أمعنت فيه قتلا وجرحا وحرقا وأسرا وجوعا وعطشا وتشريدا وحصارا..... وأذاقته كل أنواع العذاب، وحمّلته أثقالا تنوء بحملها رواسي الجبال، ومنظمتكم الأممية التي اخترعتموها لخدمة مصالحكم هي التي أصدرت عشرات القرارات تنص على حقه في أرضه، وأنتم الذين أفشلتموها ورفضتم تنفيذها!!!
كفاك مَنّاً علينا بأن بلادك قدمت الكثير إلينا؛ فما قدّمتم إلينا إلا تدمير أوطاننا، وتشتيت شملنا، وبثّ الفرقة بيننا، واحتلال عواصمنا، وابتزازنا العلني السمج المهين، ونهب ثرواتنا لشراء أسلحتكم الكاسدة، وفي مشاريعكم التي لا يعود نفعها إلا عليكم.
أما فُتات مساعداتكم المجبول بالمنّ والأذى، فوالله ما حلّ لنا مشكلة مادية، ولا أقام اقتصادا، ولا سدّ ثغرا، ولا وفى بِدَين، طحينكم الأبيض خلاف لون قلوبكم هو الذي جعلنا نتخلّى عن زراعة أرضنا بقمحنا، فزرعناها مساكن تصطف أمامها سيارات مصانعكم، وطالما ظللنا نعتمد عليكم فلن نزداد إلا ذلا وفقرا.
مساعداتكم المقيتة المذلّة سنعيدها إليكم على "الجزمة" كما قالها زعيم عربيّ أبيّ لسابقيكم ذات لحظة عزّ، مضيفا حينها بصوت مجاهر على الملأ في رابعة النهار: إنّ من يتحدث معنا منكم بكلمة واحدة غير لائقة سنقطع لسانه.
نأمل ألّا نفارق الدنيا قبل أن نرى لحظة عزّ عربية، ونسمع كلمات مدوّية كهذه شرط أن تكون ناتجة عن مواقف راسخة، حساباتها دقيقة عميقة لا رجعة عنها؛ لتعيد لنا شرفا، وتجعل لحياتنا طعما، وتعالج فينا كرامة جريحة، فلقد عيل صبرنا من هذا الاستهتار والاستبداد بنا، والاستقواء والاستعلاء علينا.
لا حلّ لنا إلا بمشروع عربي صادق نقيّ قويّ، نقف فيه موحَّدين أمام "هولاكية" العالم الغربي الجديد. والامتحان الأول أمامنا هو تعزيز صمود الأردن ومصر اقتصاديا وسياسيا في وجه المطامع الخطيرة الزاحفة القادمة، فقد قدّم هذان البلدان لهذه القضية القومية الدينية منذ بداية الصراع تضحيات عزّ نظيرها من دماء أبنائهما واقتصادهما واستقرارهما، ولا ينكر ذلك إلا جاحد حاقد، أو جاهل غافل. ودعمهما الآن فيما يواجهان أصبح واجبا قوميا مقدسا، فهما البوابتان الأخيرتان أمام الاجتياح الطاغي الجارف للعروبة في آسيا وإفريقيا. ولا يظننَّ أحدٌ منا أنه بمنأى عنه، معصوم منه.
أما شعب فلسطين العظيم، النادر المثال، الذي نباهي به الأمم؛ لأنه علّمنا كيف تُصان الأوطان، وكيف نواجه المستكبرين غير هيّابين، فهو قطب الرحى في الصراع، وهو صامد رغم كل الأهوال، عصيّ المنال. وتمكينه في الثبات على أرضه بكل وسيلة ممكنة هو سبيل نجاتنا جميعا إن أردتم أن يبقى للعروبة بقايا مكان ومكانة تحت الشمس وفوق الثرى.
.