كتب موسى العدوان * 

انتهى الحكم الاسباني رسميا لجمهورية الفلبين، عقب توقيع معاهدة باريس عام 1898، بعد استعمار دام 333 عاما، فتنازلت اسبانيا عن الفلبين لصالح الولايات المتحدة، مقابل 20 مليو دولار. كان السلام في الفلبين هشا وكانت القوات الأمريكية تهيمن على العاصمة مانيلا بينما كانت القوات الفلبينية الأضعف تتمركز في محيطها الخارجي.

بتاريخ 11 أغسطس / آب 1901، وصل فوج المشاة الأمريكي التاسع إلى مدينة بالانجيجا الواقعة جنوبي شواطئ جزيرة سامار. وكانت مهمتها تتلخص بإغلاق الميناء البحري، لمنع وصول الإمدادات والمؤن للقوات الفلبينية في المناطق الداخلية.

وقبيل وصول هذه القوات قام الجنرال الفلبيني ( فسينت لوكبان ) والذي كان مسؤولا عن جزيرة سامار، بتوصية وجهاء وأعضاء مدينة بالانجيجا، بالتعامل مع القوات الأمريكية بكل ودّ ومحبة، لكي يأمنوا أية أعمال عدائية من سكان القرية المتواجدين فيها، ريثما تسنح الفرصة المناسبة، لتوجيه ضربة قوية للأمريكان.

سارت الأمور بشكل سلس وطبيعي، وقام عمدة المدينة بتنفيذ أوامر وطلبات القوات الأمريكية، واستطاع سكان المدينة كسب ثقة الجنود الأمريكيين، ولم يتخلل هذه العلاقة الودية بين الطرفين ما يعكرها، عدا عن بعض الخلافات الناتجة عن اختلاف ثقافة وطريقة عيش كل من الطرفين.

وفي وقت لاحق وصل إلى مدينة كالنجيجا الكابتن توماس كونيل لإدارة القوات الأمريكية الموجودة هناك.

وبعد مكوثه بضعة أيام، لاحظ "الكابتن كونيل " أن الأراضي المجاورة للمدينة، يمكن أن تشكل مسلكا لتهريب المواد والمؤن للجيش الفلبيني، مما جعله يطلب من رجال المدينة، تنظيف الأراضي والأماكن المجاورة، وجمع النفايات وتخليصها من الحيوانات النافقة، بحجة قدوم أحد المفتشين الأمريكيين، لتفقد أوضاع القوات والتأكد من النظافة منعا لتفشي الأمراض.

إلاّ أن السكان ماطلوا بتنفيذ الأوامر الصادرة إليهم، لأنها كانت تتعارض مع أوامر الجنرال الفلبيني فسينت التي أصدرها إليهم سابقا. وهذه المماطلة أغضبت الكابتن الأمريكي كونيل، وأدت إلى بعض المشاحنات بين الطرفين.
 

على إثر ذلك، قام أحد رجال الجنرال الفلبيني فيسنت وهو " الكابتن أويغينيو" بالالتقاء مع رئيس مركز الشرطة الفلبينية " أبانادور" في بلدة بالانجيجا، حيث قاما بالتخطيط لتوجيه ضربة قوية للقوات الأمريكية، وقررا أن ينصبا لهم كمينا وإيقاعهم به. كما قرر السكان التحضير لاحتفال محلي تقليدي كبير، يزينوا فيه البلدة ويحضرون به الكثير من الشراب الفلبيني والكؤوس التقليدية، لكي يضمنوا بأن تكون عناصر الجيش الأمريكي في اليوم التالي بحالة سكر شديد.

وجاء هذا الاحتفال أيضا مناسبا لقدوم المفتش العام للجيش الأمريكي، حيث يتم تزيين المدينة لكي تبدو أكثر جمالا، مما يجعل الكابتن كونيل لا يعارض إقامة الاحتفال. وبعد أن تم التجهيز للأمر قام الرجال بإرسال نسائهم وأطفالهم بعيدا عن المدينة، وأقاموا الاحتفال بمشاركة الجنود الأمريكيين.

 
في صباح اليوم التالي أي بتاريخ 28 سبتمبر 1901، قامت مجموعة من رجال القرية بالتنكر بأزياء النساء وتوجهوا إلى كنيسة البلدة، حاملين معهم أكفانا تحتوي على أسلحة بيضاء من فؤوس وسواطير وسكاكين، وادّعوا بأنهم مجموعة من النادبات الحزينات على موت أطفالهن بداء الكوليرا.

وبعد أن وصلوا إلى الكنيسة بدأوا بالتسلح بأسلحتهم المحمولة معهم، وتسللوا إلى مكان تواجد الجنود الأمريكيين، الذين كانوا يتناولون طعام الإفطار، واستطاعوا قتل الحرس المسلحين، ثم قام رئيس مركز الشرطة أبانادور بإطلاق شارة البدء الهجوم.

وهكذا قام 200 رجل من رجال القرية، بالانقضاض على الجنود الأمريكيين، الذين كانوا يتناولون فطورهم وهم عزّل من أسلحتهم النارية، خاصة وأنهم لم يتوقعون مثل هذا الهجوم من سكان المدينة الودودين. واستطاع الرجال من قتل وجرح الكثيرين من الجنود الأمريكيين، من بينهم " الكابتن كونيل " الذي حاول التصدي للمهاجمين ولكن دون جدوى. وقد تمكن بعض الجنود الأمريكيين، من الوصول لأسلحتهم والتصدي للمهاجمين وإطلاق النار عليهم ثم لاذوا بالفرار.

كانت حصيلة هذا الكمين، أن قتل من الأمريكيين 54 جنديا وجرح 20 آخرين، من مجموع 78 جنديا فلم ينجُ منهم سوى 4 جنود. أما في الجانب الفلبيني فكان عدد القتلى 28 رجلا والجرحى 22 آخرين. هذه الحادثة سببت ضربة موجعة للقوات الأمريكية، وصدمة للشعب الأمريكي. أما الفلبينيون فقد اعتبروا الحادثة، عملا بطوليا من أشجع الاعمال، التي جرت طيلة فترة الحرب الفلبينية الأمريكية.

 
وثأرا لهذه العملية، تولى الجنرال الأمريكي جاكوب سميث، مهمة الرد على الكمين الذي نصبه الفلبينيون، وقام بتعيين " الرائد ليتيلنون والر" ليقوم بتطير الجزيرة من الثوار المتمردين، باستخدام عناصر من كتيبة المارينز 315 وأعطاه الإمر التالي : " لا أريد أسرى، وإنما أريد منك القتل والحرق، وكلما أكثرت من القتل والحرق، كلما كان ذلك أفضل . . أريد منك تحويل المناطق الداخلية لجزيرة سامار إلى برّية عوّاء . . اقتل كل فلبيني يبلغ من العمر أكثر من عشر سنوات ".

كما أمره باعتبار كل الفلبيين أعداء ومعاملتهم كما في التوصية، إلى أن تظهر إشارات وبوادر حقيقية، بأنهم أصبحوا متعاونين بشكل جادّ، ويزودونا بالمعلومات عن الثوار والمتمردين، وعن أماكن تواجدهم وإمداداتهم وطرق انتقالهم.

وبدأ تنفيذ الخطة، بقطع جميع طرق التجارة والملاحة البحرية تماما عن الجزيرة، بغية الضغط على السكان، عن طريق تجويعهم وحرمانهم من الإمدادات والمواد الضرورية، لينتهي بهم المطاف إلى الاستسلام والتعاون مع الأمريكيين، ومساعدتهم في القبض على المتمردين.

وهكذا قاموا بتنفيذ أوامر " الكابتن جاكوب سمث "، وعملوا على حرق المنازل وقتل المدنيين الفلبينيين، الذين تبلغ أعمارهم أكثر من 10 سنوات. كما ذبحوا المواشي والحيوانات ودمّروا حقولها الزراعية. ويقول المؤرخون التاريخيون، بأن حصيلة عدد القتلى الفلبينيون في هذه الحادثة، يزيد عن 50 ألف مدني.

فما أشبه اليوم بالبارحة . . ! إن ما يجري في حرب الإبادة، التي تشنّها قوات الاحتلال الإسرائيلي على غزة والجنوب اللبناني هذه الأيام، هي نسخة تماثل ما فعله الأمريكيون في الفلبين، ولكن بصورة أشد بشاعة وإجراما.

فبدلا من قتل كل من هو بسن يزيد على عشر سنوات في الحالة الأمريكية، يقوم الإسرائيليون بقتل المدنيين صغارا وكبارا، باستخدام صواريخ الطائرات الأمريكية من زنة 500 إلى 2000 رطل، لهدم المنازل فو ق رؤوس الأطفال الرضّع والنساء والشيوخ، مطبقين سياسة الأرض المحروقة، وضاربين بعرض الحائط كل القوانين والأعراف الدولية والإنسانية.

كما يتفاخرون بالحصار البري والبحري الخانق، وحرب الجوع التي يفرضونها على سكان قطاع غزة بكل ظلم ووحشية. ولكن الله لهم بالمرصاد كما جاء في قوله تعالى في محكم كتابه:
﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَار ُ﴾


* الكاتب فريق ركن متقاعد 
.