كتب: كمال ميرزا
أحد أسباب كره وحقد الأنظمة العربية على المقاومة أنّها استطاعت عبر معركة "طوفان الأقصى" المباركة فضح زيف ذلك البعبع الورقيّ وتلك الفزّاعة الخاوية المسمّاة "إسرائيل".
المقاومة بـ "فعلتها" هذه سلبت الأنظمة العربيّة إحدى أهم الأكاذيب الأثيرة على قلبها، والتي طالما استغلّتها ووظّفتها في خداع شعوبها، سواء لتبرير هزائمها وإخفاقاتها السابقة، أو لتسويغ سياساتها الحاليّة القائمة على الارتماء في الحضنين الصهيونيّ والأمريكيّ، والانسحاق أمامهما، ورهن البلاد والعباد طوع أمرهما، وربط مصير دول ومجتمعات عربيّة بأكملها بمصير الكيان الصهيونيّ وبقائه واستمراره!
ولهذا قد عملت الأنظمة العربية بشكل حثيث على مدار سنوات طويلة من أجل تكريس خرافة أنّ الكيان الصهيونيّ "قوة لا تقهر"، وأنّ اليهود هم "شعب" من الشياطين أو العباقرة، أي شعب يتمتع في الحالتين بقوى ومواصفات عجائبيّة خارقة!
فإذا كانوا شياطين "فنحن لا نملك إلّا الاستعاذة بالله أو الفرار أو الاستسلام" على حدّ تعبير الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله، وإذا كانوا عباقرة و"يدهم الخفيّة متحكّمة في العالم بأسره، فبطبيعة الحال لا قِبَل لنا بالحرب ضدّهم، فهذا، يقيناّ، فوق طاقة البشر"!
والمفارقة أنّ الأنظمة العربية قد ربّت هذه الخرافة وكبّرتها وضخّمتها باسم "العداء لليهود"، ونستطيع هنا أن نتلمّس بسهولة الأثر المدمّر الذي تسبّب به "شيوخ السلطان" بهذا الصدد، وإضفائهم هالة غير بشريّة أو ما فوق بشريّة على اليهود و"بني إسرائيل" في عقول الناس ووجدانهم، بدلاً من التعامل مع اليهود كـ "بشر لهم خصوصياتهم التاريخيّة وخاضعين لعوامل الزمان والمكان"، وبالتالي هم قابلين للوقوف في وجههم ومواجهتهم ومجابهتهم وهزيمتهم مثل سائر البشر.
هذا ما يُطلق عليه المسيري اسم "أنسنة اليهود"، ولكنّها ليست أنسنة بمعنى "تبرئة ساحتهم" و"التعاطف معهم" كما يحاول البعض الترويج له باسم هراء السلام والتطبيع والأخوّة الإبراهيميّة، بل هي أنسنة بمعنى إدراك أنّ الاستعمار الصهيونيّ والعنصرية الصهيونيّة والشرّ الصهيوني وكلّ ما يتعلّق بالكيان الصهيونيّ.. جميعها ظواهر إنسانيّة يمكن رصدها ودراستها وتفسير معظم جوانبها، وبالتالي معرفة كيف ينبغي التعامل معها وهزيمتها وردّها في نحور أصحابها!
ولعل هذه إحدى أهم ميّزات المقاومة ونقاط قوتها؛ فقد أدرك قادتها وآمن أبطالها أنّهم ليسوا إزاء كائنات فائقة أو متفوقة وإنما بشر من لحم ودم، بل نوعية جبانة ووضيعة من البشر تختبئ وراء قناع مزيّف من القسوة والبطش والغطرسة، وهو ما مكّنهم من مقارعة هذا العدو وتحطيم كبريائه وإنزاله من عليائه وتمريغ أنفه بالتراب.
ولهذا السبب ينفي المسيري عن دعاة السلام والتطبيع صفة "الواقعيّة" التي يتخذونها حجّة لتسويغ تخاذلهم وتواطؤهم وتماهيهم مع العدو، ويصفهم بـ "الوقائعيّين"، في حين أنّ الواقعيّين الحقيقيّن هم أبطال المقاومة "المجاهدون الذين تجاوزا الظاهر ووصلوا إلى الباطن/ الإمكانيّة الكامنة وتحرّكوا في إطارها"!
بقي أن نقول أنّ خسارة الأنظمة العربية لورقة "البعبع الصهيونيّ" لا تكفي وحدها لتفسير موقف جميع هذه الأنظمة من المقاومة وحقدهم عليها؛ فهناك من الحكّام والمسؤولين العرب مَن يهيمون حقاً بالصهاينة والأمريكان، وينظرون إليهم حقّاً باعتبارهم نوعاً فائقاً ومتفوقاً من البشر، ويؤمنون حقّاً أنّ أفضل شيء يمكن أن يحدث لهم ولشعوبهم هو أن يصبحوا صهاينة وأمريكان.. ومن هنا يأتي يقين هؤلاء العجيب بحتمية انتصار العدو، وبناء رهاناتهم على هذا الأساس، وإصرارهم بعد (410) أيام متواصلة من القتال البطوليّ والصمود الأسطوريّ على تجاهل حقائق "الميدان" ومفاعيله واستحقاقاته، وعدم الاحتراز وحفظ "خط الرجعة" كما تقتضي أصول السياسة في حال خابت حساباتهم، وسارت رياح الطوفان بعكس ما تشتهي سفن صهاينة العرب والأجانب!
.