بقلم المحامي : محمد المأمون ابو رمان
في يوم استدعي الشاعر علي بن الجهم إلى مجلس الخليفة المتوكل، وعندما دخل على مجلسه أراد أن يمدح الخليفة وقد كان علي بدويًا جافياً، فلم يسعفه لسانه على أن يقول له أفضل من هذا المدح، وقال له :
أنت كالكلب في حفاظك للود.. و كالتيس في قراع الخطوب
أنت كالدلو لا عدمنـاك دلـوا.. من كبار الدلاء عظيم الذنـوب
فاندهش الحاضرون من هذا المدح فهو قد وصفه بالكلب والتيس وليس ذلك مدحًا، ولكن أمير المؤمنين المتوكل عرف بأن هذا الكلام صدر من رجل قوي من أهل الصحراء ولكن وعلى الرغم من خشونة الكلام إلا أن مقصده كان رقيقًا، وإنما خرج منه خشنًا هكذا لعدم مخالطته الناس والتزامه الصحراء، فأمر له ببيت جميل في المدينة على الشاطئ قريب من الجسر، وفي هذا البيت بستان جميل أخضر نسمته لطيفة، فأقام في هذا البيت ستة أشهر، وبعد ذلك دعاه أمير المؤمنين إلى مجلسه وعندما دخل عليه، طلب منه أن ينشد، فأنشد قائلًا :
عيون المها بين الرصافـة والجسـر.. جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
اعدن لي الشوق القديم ولم اكن.. سلوت ولكن زدن جمرا على جمر
الصحيح انني وقفت طويلا اتخيل ردة فعل الخليفة وقسمات وجهه وهو يزبد ويرغي من شدة الغضب ، ولم يخطر ببالي ابدا ان في ذلك الزمان الذي عرف بالسلطة المطلقة للحاكم والسياف الى جانبه يستل سيفه وينتظر الامر بقطع رأس كل من يعكر صفو الخليفة ، الا انه وعلى العكس تماما فقد تعامل المتوكل مع الموقف بسعة صدر واناة وحلم عز نظيره في ذلك الزمان ، ويبدو لي ان مرد ذلك لما عرف به المتوكل من ذوق عذب في فهم الشعر ومقاصد الشعراء فالعبرة عنده تجسدت بالمعاني لا بالألفاظ والمباني.
وبذات الوقت خطر ببالي صورة التيس بذقنه الصغير والكلب بذنبه المهتز فرحا عند لقاء صاحبه، كيف اصبحا محورا اساسيا في الادارة السياسية في ايامنا هذه ، ففي جمهوريات الموز البعيدة التي استقلت ولم ينفك الاستعمار جاثما على صدرها يمتص خيراتها ويجوع اطفالها ويعبث في مقدراتها ويتحكم بكل مفاصل الدولة، فعندما يعين المسؤول يجب ان يدين بالولاء والود له، فهو السيد ولي النعمة الذي يغدق عليه بالمنح والعطايا من اموال الشعب البائس ، فيتوجب عليه تنفيذ كل ما يطلب منه من سياسات تضمن بقائه واستمرارية نهجه، فيزود المسؤول بالمهام المطلوبة وعلى الاخير تنفيذها بدقة خلال فترة توليه المسؤولية، ، ويفوض بكامل الصلاحية في سبيل ذلك لقمع كل من يقف معارضا ممانعا للنهج الجديد، فاستلهم المسؤولون في تلك البلاد لتحقيق ذلك مفهوم ونظرة ابن الجهم للتيس والكلب لتحقيق الاهداف مع الاختلاف في الغاية والاسلوب ، فيعين احد كبار الموظفين ممن عرفوا بالبطش والقسوة وصلابة المراس ليقوم بمهام التيس في مقارعة معارضي النهج والفكر الجديد ، فهو يتولى مهمة نطح وطحن كل من تسول له نفسه اعاقة او معارضة السياسات الجديدة والتي يطلق عليها احيانا الحداثة والتحول ، كما يستخدم موظفين اعدوا ودربوا تدريبا عاليا ليقوموا بدور الكلب الذي عرف بالود والمحبة والاخلاص لصاحبه لترويج للأفكار الجديدة والنهج القيادي الحديث، ويعمل بالتنسيق التام مع التيس فيمرر له كل المعلومات التي تخص المعارضين لتطويعهم واعادتهم اما موالين او محيدين مغيبين، بما يجعل مهمة المسؤول ورؤيته الحديثة القائمة على تحقيق مصالح السيد مهمة سهلة قابلة للتطبيق دون أي معارضة باستخدام استراتيجية الكلب والتيس احيانا، واحيانا اخرى بإشغال الناس بمشاكلهم التي لا تنتهي، فالمواطن يبحث وباستمرار عن فرصة اما للعمل او التعليم او الصحة، وهو باستمرار يسعى لسد حاجاته الاساسية التي يزداد الطلب عليها مع تقدم الحياة وتطورها وما يستتبع من زيادة في المتطلبات الاستهلاكية الخدمية ، الامر الذي يبقي المواطن يبحث ويستجدي حقوقه التي يمن عليه ببعضها وعلى مراحل ، يخص بها المطيع الموالي وتحجب عن المعارض المستبصر، رغم نبل موقفه ووطنيته وسعيه الدؤوب لتغيير الحال واصلاح ما فات حتى ولو بالكلمة التي صفح عنه المتوكل واجزل العطاء لقائلها عندما فهم نبل غايته، ولم ينسها السيد ويحملها على محمل الجد .
ولعل هذا النهج المستحدث في الادارة العامة اصبح سمة ومنهجا في الحياة والادارة في الكثير من الدول في عالمنا المعاصر ، فتطوع كل الامكانيات في الدولة لخدمة السيد لنهب خيرات البلاد ومواردها، حتى وان استقلت وتتولى ادارة نفسها ، فهي واقعيا ما زالت ترزح تحت سوطه وسطوته لتطويعها لخدمة مصالحه وغاياته .
ترى... متى يتغير هذا النهج في ادارة هذه الدول وتخصص ثروات البلاد لخدمة العباد ، ويصنع القرار ابناء الوطن المخلصين دون حاجة لكلب او تيس او اشياء اخرى...؟؟؟
.