كتب د. جمال الحمصي

يهدف هذا المقال الى تقييم الإنجازات "الكلية" لبرنامج التحديث الاقتصادي في مرحلته الأولية مع التركيز على معياري تحفيز النمو التنافسي وخلق فرص عمل مستدامة. كما يشرح هذا المقال باختصار معيقات التقدم المستهدف وكيفية تحويل الخطوات التمهيدية والصغيرة الى نقلة تنموية ملموسة في النمو والاستثمار والتشغيل والدخل العائلي؟ أما بقية المؤشرات الاقتصادية الكلية مثل الاحتياطيات الأجنبية المرتفعة والتضخم ووضع الموازنة العامة فهي "مخدومة" بدرجة أو بأخرى (باستثناء المديونية العامة) قبل رؤية التحديث الاقتصادي بوقت طويل ولا تشكل بالتالي تحدياً طويل الأجل.

غني عن التفصيل ضرورة التأكيد على أهمية النمو طويل الأجل في رخاء واستقرار واستدامة الدول والمجتمعات والأمم. ويكفي التنويه الى ما أشارت له دراسة حديثة لصندوق النقد الدولي (2021) عنوانها: "تجنب الوقوع أو معاودة الطيران: نقاط الانعطاف في هشاشة الدول" تستنتج أن تحسين متوسط دخل الفرد وتجنب الانكماش الاقتصادي عامل حرج وسريع الأثر لمنع الهشاشة العامة. ذلك أن ركود متوسط دخل الفرد يزيد هشاشة مؤسسة الأسرة ويفاقم معدلات الجريمة (خصوصاً ضد الملكية) ويزيد المنازعات المجتمعية على الموارد المحدودة، كما يحدث حالياً مع لائحة أجور الأطباء الجديدة وزيادة الحد الأدنى للأجور، ويصعّب أيضاً تمويل فاتورة الصحة والأمن والدفاع.

وبهذا الخصوص، سجل الاقتصاد الأردني في عام 2023 نمواً في الناتج المحلي الاجمالي الحقيقي بلغ 2.6% حسب التقديرات الرسمية، أي أقل من نصف ما استهدفته رؤية التحديث الاقتصادي والبالغ 5.6% سنوياً، مقابل 2.4% سجلها اقتصادنا الوطني في عام 2022، ومقابل 3.2% حققه الاقتصاد العالمي في العام الماضي. أما معدل البطالة (فئة بكالوريس فأعلى) فقد ارتفع من 25% في عام 2019 (قبل كورونا) الى 27% في عام 2023، واتجاهات معدل البطالة الكلي لا تختلف نوعياً كذلك. وهذا الأداء "الكلي" هو بوضوح دون الطموح المستهدف من قبل الرؤية.

في المقابل، أكد التقرير السنوي للبنك المركزي الأردني 2023 (صفحة 37) أن نسبة الإنجاز في البرنامج التنفيذي لرؤية التحديث الاقتصادي (2023-2025) وصلت إلى نسبة عالية بلغت 82% في عام 2023.، حيث أنجزت 78 أولوية من أصل 97 أولوية مخطط لها وموزعة على محركات النمو المختلفة والبالغة 8 محركات اجمالية، أي أن هناك 19 أولوية متأخرة فقط.

وتتلخص أبرز الانجازات السنوية في تنفيذ مختلف "محركات النمو" في الآتي: إقرار استراتيجية ترويج الاستثمار (2023-2026) وإطلاق الاستراتيجية الوطنية للتصدير (2023-2025)، الى جانب رقمنة خدمات أعمال وإعداد بعض أدلة ترخيص الأنشطة الاقتصادية وإطلاق منصة استثمارية ترويجية وإقرار أنظمة وتعليمات استثمارية تيسيرية. كما تم إطلاق صندوق دعم وتطوير الصناعة، حيث قُدم دعم مباشر ل 138 منشأة لتحديث خطوط الانتاج وتطوير التكنولوجيا وزيادة العمالة. وتم اعداد خارطة استثمارية إلكترونية لفرص التعدين.

السؤال المركزي والهام في مجال مراجعة نظام المتابعة والتقييم (M&E) للبرنامج التنفيذي: ما دامت نسبة الانجاز في البرنامج التنفيذي لرؤية التحديث جيدة جداً وتتجاوز 80%، لماذا لم ينعكس انجاز الأولويات في نتائج النمو والتشغيل والدخل العائلي وتعزيز تنافسية الأردن عالمياً؟ هل المشكلة في التصميم أم في التنفيذ؟ أم كلاهما كما سيتبين.

تتنوع الأسباب الكامنة لمعيقات التقدم الكلي المستهدف ولعدم مواكبة تدابير رؤية التحديث للمستهدفات الاقتصادية الكلية في مجالي النمو والتوظيف، وهي أسباب يجب تقييمها بعمق لتعديل نظام المتابعة ومنظومة قياس الأداء إذا ما أردنا تحقيق النمو الشامل والمستدام والداعم للاستقرار المالي والنقدي في الأجل الطويل:

1- اهتمام الوزارات والوحدات الحكومية المستقلة بالإنجاز الأولي أو "التمهيدي" (كإصدار استراتيجية قطاعية أو خارطة فرص استثمارية) دون المتابعة والتنفيذ والتحقق من النتائج التنموية وأثرها على النمو القطاعي مقاساً بالقيمة المضافة وفرص العمل الجديدة ومستوى معيشة الأفراد.
2- التركيز على التدابير "الجزئية" و"التمهيدية" غير المؤثرة الى حد كبير من منظور اقتصادي كلي. هذا يعني أن الارتباط المفترض بين أولويات الرؤية وبين نمو الانتاج أو الاستثمار أو فرص العمل المستحدثة هو ارتباط ضعيف أو جزئي. رقمنة الخدمات الحكومية على سبيل المثال هو اجراء أولي لابد من ضمان جودته وأثره النوعي المتوخى. فهذه التدابير الجزئية أو التمهيدية هي شرط ضروري لكنها غير كاف بحد ذاتها لتحقيق المستهدفات الكلية، ودراسات تقييم الأثر (اللاحق) يمكن أن تعزز الأدلة الإحصائية الكلية.
3- أثر البيروقراطية في إعاقة التنفيذ الكامل والمستهدف والسريع، ويؤكد ذلك نسبة الإنجاز للنصف الأول من عام 2024، حيث هنالك 75 أولوية مستهدفة حتى نهاية 2024، تحققت منها 19 أولوية فقط خلال النصف الأول من هذا العام، وذلك حسب تقرير النصف الأول من عام 2024 لوحدة متابعة الاداء الحكومي والانجاز في الرئاسة.
4- ضعف الترابط بين أولويات ومبادرات الرؤية، مما يقلل من أثر التعاضد الاجمالي Synergy Effect لمبادرات كل المحركات.
5- عدم اهتمام الإدارات العليا في الوزارات والوحدات الحكومية المستقلة بهدف النمو الاقتصادي العام والتشغيل كما أكدت عليهما رؤية التحديث في مستهدفاتها الكلية. بل قد تتعذر ادارات الوزارات والمؤسسات الحكومية بتشريعاتها المؤسسية التي يمكن ان تدلي بأولويات مختلفة عن تحفيز النمو الاقتصادي.
وهذا السبب الكامن هام ويحتاج الى مقال مستقل. فمثلاً، وثيقة السياسة الصناعية المُقرّة للأعوام (2024 – 2028) نصت على نمو صناعي مستهدف في القيمة المضافة لا يتجاوز 2%! (مقابل 5.6% استهدفتها الرؤية لكافة قطاعات الاقتصاد في المتوسط). هذا يعني ببساطة أن قطاع الصناعة الذي يشكل خمس الناتج المحلي لن يشكل رافعة مستقبلية للاقتصاد الوطني حسب ما التزمت به وزارة الصناعة وأقرته الحكومة ككل في الوثيقة المذكورة.

6- ضعف إشراك القطاع الخاص في التنفيذ وندرة تقييم رأي متلقي الخدمة في فعالية التدابير والأولويات من خلال استطلاعات ميدانية.
7- تعذّر ادارات الوزارات والمؤسسات الحكومية بالتحديات والصدمات والبيئة الخارجية غير المواتية. لكن هذا يمكن دحضه أما بتوقيت هذه الصدمات، أو بعدم كفاية التدابير المنفذة و"الموازنة" لتأثير هذه الصدمات، أو بإجراء المقارنات الدولية المعيارية بالقياس الى الأداء الأفضل International Benchmarking.
8- اعتماد الوزارات والوحدات الحكومية المستقلة تدابير "تقشفية" موازية تكبح الطلب الكلي أو العرض الكلي، بناء على متطلبات برامج صندوق النقد والبنك الدوليين. هذا يشمل السياسات الكلية، المالية والنقدية، ولكنه غير محصور فيهما.
وما السبيل أذن الى تحقيق "دفعة قوية" في النمو الشامل والتوظيف المستدام؟

a) لقد شرحت في مقالين متتاليين هما: "كيف نحقق مستهدفات النمو في رؤية التحديث الاقتصادي: نموذج الإدارة والموازنة العامة الموجّهة بالنمو" و "كيف نحقق مستهدفات النمو في رؤية التحديث الاقتصادي: حالة عملية لقطاع الصناعة ووزارة الصناعة" نموذجاً إدارياً ومالياً لتحقيق الاتساق في مشاريع وتدابير الوزارات والمؤسسات المستقلة نحو تحقيق المستهدفات الكلية للرؤية، بعيداً عن النهج الجزئي والتدرجي البطيء في التحديث الاقتصادي. وهنا تم التأكيد على القيادة والحوكمة الاقتصادية والشراكة مع المجتمع المدني في المتابعة والمساءلة والتحفيز.
b) هل المشاريع الكبرى هي الحل؟ وما دور مشاريع الشراكة بين القطاعين العام والخاص؟ أعتقد أنها أحد الحلول وفقط ضمن قطاعات واعدة معينة، وذلك لأسباب عائدة الى حوكمة وربحية وتنافسية وتمويل هذه المشاريع، ولكن المشاريع الكبرى ليست هي الضامن لتحقيق مستهدفات النمو والتوظيف لرؤية التحديث. ولابد من تحسين بيئة اعمال المشاريع الصغيرة والمتوسطة ومتناهية الصغر مع دعم عناقيدها وقطاعاتها الواعدة ذات الأولوية. 
c) ينبغي توحيد منهجية متابعة الاداء الحكومي، واعتماد مؤشرات أداء رئيسية(KPIs) تتجاوز "المدخلات" وتركز بدلاً من ذلك على "المخرجات النهائية"، على أن يكون النمو والتوظيف والتنافسية الدولية هي المخرج الأهم ضمن نظام متابعة الاداء الحكومي والانجاز، بل هي فعلاُ أهداف البرنامج الاستراتيجية. 
d) تقوية الترابطات والتنسيق بين أولويات رؤية التحديث الاقتصادي وركائزها الأساسية (النمو الاقتصادي وجودة الحياة) من ناحية، وبين هيكل القطاع العام ممثلاً بالوزارات والدوائر المرتبطة والوحدات الحكومية المستقلة من ناحية أخرى. هذا هام بشكل خاص في الغايات العابرة للوزارات كتشجيع الاستثمار وتخفيض البطالة، وسيسهل في المحصلة من نظام المتابعة والمساءلة على مستوى الوزارة والوحدة الحكومية. ولاشك بأن لوزارة تطوير القطاع العام وخارطة تحديث القطاع العام مساهمة جوهرية في هذا الشأن، وإن اقتضى الأمر تعديلات تشريعية وإدارية نحو الأفضل. علماً بأن أكفأ الخبرات العالمية لن تكفي لإحداث النقلة النوعية في التصميم والتنفيذ، ولابد من حوار السياسات المحلي والتعلّم السريع كعملية حرجة ومستمرة.
2
 
.