تعد أقدم معاصر النبيذ المكتشفة في جنوبي القوقاز وجورجيا وأرمينيا وأجزاء من إيران القديمة دليلًا قويًا على قدم الحضارات التي نشأت في تلك المناطق. وتُظهر هذه المعاصر، التي تعود إلى نحو 6000 عام، أن إنتاج النبيذ كان ممارسة متطورة تتطلب استقرارًا اجتماعيًا واقتصاديًا وأمنيا، وموارد مائية وزراعية وفيرة، وتقنيات تصنيع متقدمة. كل هذه الشروط تُعد مؤشرًا على وجود حضارة قائمة بذاتها.
يتزامن هذا النشاط الحضاري في هذه المناطق مع تطور الحضارات القديمة المجاورة مثل حضارات بلاد ما بين النهرين بدءا من السومريين في العراق والكنعانيين والفينيقيين في بلاد الشام والفراعنة في وادي النيل وحضارات اليمن القديمة، وهو ما يشير إلى تشابه وتداخل في أسس التطور الثقافي لهذه المناطق.
فإنتاج النبيذ ليس مجرد عملية زراعية بسيطة، بل يتطلب ظروفًا معينة من الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والأمني، وهذا لا يمكن أن يحدث إلا في ظل وجود أنظمة حضارية متقدمة تملك القدرة على تنظيم العمل الزراعي والصناعي وتوزيع الموارد. وبالتالي، تُظهر معاصر النبيذ المكتشفة في هذه المناطق أن الحضارات التي نشأت فيها كانت متقدمة بما يكفي لتمارس هذا النشاط الإنتاجي المتطور.
ومن ناحية أخرى، فإن هذه الحضارات لم تكن معزولة عن بعضها البعض، بل كانت تشهد تبادلات تجارية وثقافية عبر طرق التجارة التي ربطت بين مناطق الشرق الأدنى وربي اسيا والبحر الأبيض المتوسط وبحر الخزر- قزوين والبحر الاسود، اذ يعود تاريخ التبادل التجاري في هذه المناطق إلى آلاف السنين، وكان له دور محوري في نقل الأفكار والمعتقدات والرموز الدينية بين الحضارات المختلفة. أحد أبرز الأمثلة على هذا التشابه الثقافي هو الأساطير والمعتقدات التي كانت تنتشر بين الشعوب.
على سبيل المثال، يظهر البطل الشركسي سوسروقة في الأساطير الشركسية كبطل خارق، ويُعد في هذا السياق نظيرًا لشخصية بروميثيوس في الأساطير اليونانية. كلاهما يتمتعان بخصائص الأبطال الذين يتحدون الآلهة ويقومون بأفعال ترتبط بنقل المعرفة أو الفوائد إلى البشر. هذا التشابه في الأدوار البطولية يُظهر التداخل الثقافي بين الحضارات القوقازية واليونانية.
كذلك، نجد في الأساطير السومرية إلهة الخصب والحب "إنانا" التي تشبه في العديد من سماتها الإلهة الشركسية "ساتانيه". كانت كل منهما تمثل قوى طبيعية أساسية، مثل الخصب والنماء، وتعكس دور المرأة في المجتمع والزراعة. هذه الأوجه المشتركة بين الأساطير تبرز مدى تشابه وتداخل الأفكار بين الحضارات القديمة.
إلى جانب ذلك، يمكننا أن نجد أمثلة أخرى تعكس هذا التشابه والتداخل. في الأساطير الفارسية القديمة، يظهر البطل "جمشيد" الذي يتمتع بخصائص مشابهة للملوك الأسطوريين في بلاد ما بين النهرين، مثل "جلجامش" السومري في العراق. كلاهما يحكمون لفترة طويلة من الزمن ويعانون من تحديات تتعلق بالموت والخلود. هذا التشابه في قصص الأبطال الملكيين يعكس مدى التفاعل الثقافي بين فارس وبلاد ما بين النهرين.
ومن ناحية أخرى، تظهر الرموز الدينية أيضًا في أشكال متشابهة بين الحضارات القديمة. ففي مصر القديمة، كانت الإلهة "إيزيس" تلعب دورًا محوريًا في الأساطير المتعلقة بالخصب والحياة بعد الموت. وبالمثل، نجد دورًا مشابهًا للإلهة "إنانا" في سومر. يعكس هذا التشابه في الرموز الدينية المشتركة بين الحضارات المصرية والسومرية تقاربًا حضاريًا يعزز فكرة التبادل الثقافي.
تشير هذه الأمثلة إلى أن المنطقة الممتدة من جنوبي القوقاز وحتى وادي النيل، وربما اليمن ايضا، كانت متقاربة ثقافيًا إلى حد كبير. كان تبادل الأفكار والرموز بين الحضارات القديمة أمرًا شائعًا ومؤثرًا في تشكيل الهويات الثقافية والأساطير من خلال هذا التشابه في الرموز والمعتقدات.
ختاما يمكننا القول إن ثقافة النبيذ المتطورة والرموز المشتركة بين هذه الحضارات تعكس مدى تقاربها وتفاعلها الحضاري على مر العصور.
هذه أفكار مطروحة للمناقشة وليست حقائق نهائية، وقد جاءت بعد عصف ذهني خلال حفل إشهار كتابي: الشراكسة: رحلة نضال في الجمعية الخيرية الشركسية، واستخلصت منه أن اندماج الشركس والكرد والفرس والارمن وغيرهم في حضارة هذه المنطقة ليس طارئا بل متأصلا في عمق أعماق الحضارة العربية والمناطق المتاخمة لها.