غير مرّة كتبت عن هذه الحادثة، وأعيد الكتابة، فلم يزد عمري حينها على العشر سنوات، حين رددت على هاتف المنزل في القُدس، وكان على الطرف الآخر من يطلب الحديث مع أبي لأنّ دولة وصفي التلّ يريد أن يحادثه.

أبلغت والدي بذلك، فذهب فوراً إلى الهاتف، بعد أن أنّبني لأنّني لم أعرف أنّ التلّ هو رئيس الحكومة، وحادثه لدقائق قليلة، ثمّ سارع إلى الخروج من المنزل!

عرفتُ بعدها بسنوات أنّ الرئيس، الذي كان يشرف على دمج الصحف، قال لوالدي: مكانك محفوظ، وسوف تكون في المقدّمة، والشريف عبد الحميد في انتظارك الآن في الفندق الوطني، ووافق على العرض.

عاد أبي ليبلغنا أنّنا سنلتحق بأهلنا في عمّان، فقد وافق على شروط الانتقال، وقد نشر الوالد تفاصيل ذلك في ذكرياته، وذلك ما كان.

حين بلغنا خبر استشهاد وصفي كانت عمّان ما زالت تعيش جراح أيلول، ولا أنسى أنّني كنتُ في النادي الاولمبي في اللويبدة، حين جاءني الحبيب يزن العجلوني وقال لي: قتلوا وصفي فاذهب فوراً إلى البيت!

وهذا ما فعلت، ومع مرور الساعات كان والدي يعود إلى البيت بعد إنجاز عدد "الدستور" الجديد، وفي فمه ماء، وحزن، لأنّ الغدر كان العنوان، وجرأة الرجل في الذهاب إلى القاهرة مع كلّ التحذيرات، قوبلت بالجبن والتواطؤ والخيانة.

وصفي التل كان انموذجاً مهمّاً لرئيس وزراء أردني يحبّ بلاده، ويعمل من أجلها، وقومياً عربياً يريد الوحدة مقابل إسرائيل، ولكنّ الغدر قابله وهو في عزّ جرأته، يُقابل مصيره دون خوف، فصار شهيداً يحتفل كلّ الأردنيين من كلّ الأصول والمنابت بذكراه العطرة، وللحديث بقية.
.