الحكومة الأخيرة
في 3 أيلول 1970، أصدر الملك حسين مرسوما يقضي بتشكيل مجلس الملك الخاص، وكان وصفي التل أحد أعضائه. وفي 15 أيلول استدعي وصفي إلى قصر الحمّر، للتشاور حول الأوضاع الداخلية، وحسم العلاقة مع المنظمات، ووجودها العسكري داخل المدن. ويبدو أن وصفي كان صاحب اقتراح تشكيل حكومة عسكرية، برئاسة محمد داود، وهو شخصية عسكرية أردنية، من أصل فلسطيني. وقد استقالت الحكومة بعد انتهاء المواجهات التي امتدت حتى يوم 26 أيلول 1970.
اقترح وصفي التل على الملك حسين أحمد طوقان لتكليفه بتشكيل حكومة جديدة، لم تلبث أن استقالة بتاريخ 28 تشرين الأول 1970. وفي اليوم نفسه كلف الملك حسين وصفي التل بتشكيل الحكومة.
اقتضت طبيعة المرحلة وجود رجل قوي على رأس الحكومة. لم يكن وصفي على الإطلاق عدوا للعمل الفدائي الذي نادى به ودعمه، إلا أنه كان يؤمن كذلك بضرورة ترسيخ الأمن، واحترام سلطة الدولة.
تضمن كتاب التكليف اعتناء الحكومة بعدة قضايا، تشكل برنامجا لبناء دولة الإنتاج والمقاومة، من أهما تعزيز الثقة بين نظام الحكم وحركة المقاومة، وتوحيد الجهد والصف في الجبهة الشرقية، ومواجهة الدعوات الهادفة إلى تفتيت الوحدة الوطنية، وإعادة النظر في كافة أجهزة الدولة، والعمل على بناء الاقتصاد وتحديثه، والحرص على المؤسسة العسكرية وتطويرها، وهي مبادئ أساسية شكلت فلسفته ورؤيته للحكم.
جاء رد وصفي التل على كتاب التكليف، مؤكدا عزمه على التقيد باتفاقية القاهرة، وهي الاتفاقية التي رعاها الرئيس جمال عبد الناصر في القاهرة، بعد مؤتمر عربي عاجل، والتي تضمنت انسحاب المنظمات من المدن، وإنهاء المواجهات. كما بين أن الجهد الداخلي والخارجي لحكومته سيصب بشكل أساسي في مسألة التحرير كهدف، وبناء الوطن ذي الجهد المنظم، والإرادة الموحدة.
قوبل تشكيل الحكومة بانتقادات من سورية ومصر، واستدعى أنور السادات، السفير المصري في الأردن للتشاور.
أكد وصفي التل أن فلسفة الحكم عنده قائمة على مبدأ الوضوح، وعبر عن ذلك بالقول:” إن الوضوح في التفكير، كالوضوح في العمل، أساسا في قناعاتي للحكم السليم. وإذا كنت شخصيا، قد عانيت بعض الشيء، في كل المراحل التي تشرفت فيها بحمل المسؤولية، فإنني قانع بأن سبب تلك المعاناة، هو إصراري على التمسك بالوضوح في كل شيء: الوضوح في تفكيري وأفكاري، والوضوح في عملي وخطواتي ...”.
كما أشار إلى أهمية النظام والقانون في حياة الأمم، مؤمنا أن القوة ليست هي الأداة الوحيدة لتحقيق غايته، بل نواة إلى أداة حقيقية تتمثل في ثنائية الوعي والإدراك، التي يجب أن تؤطر نفسية المواطن ...”.
في الثاني من كانون الثاني 1971، قدم بيان حكومته أمام مجلس النواب، مؤكدا فيه أن هدف حكومته هو الحشد للمعركة، متعهدا بتنفيذ الاتفاقيات المعقودة مع المقاومة الفلسطينية.
حازت الحكومة على ثقة 40 نائبا، وحجب الثقة عنها نائب واحد هو الإخواني يوسف العظم.
حاول وصفي التل إيجاد وسيلة إعلامية جديدة، تتبنى سياسات الحكومة وتوجهاتها، فجاء إصدار صحيفة الرأي كخطوة في هذا الاتجاه.
شارك وصفي التل في افتتاح المؤتمر الأول للاتحاد الوطني الأردني يوم 25 تشرين ثاني 1971، وهو آخر عمل رسمي قام به قبل مغادرته إلى القاهرة؛ لحضور اجتماعات مجلس الدفاع العربي المشترك، المقرر عقده يوم 27 تشرين ثاني 1971.
وعلى الرغم من النصائح العديدة التي أسديت إليه بعدم السفر، لوجود خطر أكيد على حياته، إلا أنه أصر على المشاركة، حيث كان الملك حسين في وداعه برحلته الأخيرة إلى القاهرة.
وفي آخر مقابلة صحفية معه، أكد وصفي التل أنه قدم إلى القاهرة بصفته وزيرا للدفاع، مشيدا بالتقرير العسكري لرؤساء الأركان العرب، لكونه من أكثر التقارير فهما وإدراكا، مثنيا على واضعه، اللواء المصري سعد الدين الشاذلي، معتبرا إياه شخصية عسكرية ذكية.
اقترح وصفي التل خلال مناقشة التقرير العسكري في الجلسة المغلقة، مسألة عسكرية مهمة، شكلت على الدوام ركنا أساسيا في تفكيره الاستراتيجي، تستند على تطويرأربع جبهات رئيسة، ثلاث منها دفاعية، ورابعة للهجوم والتصدي.
والجبهات الدفاعية هي: الجبهة الشمالية لسوريا، والجبهة الشرقية للأردن، والجبهة الجنوبية لمصر. أما الجبهة الرابعة فسمّاها الجبهة الوسطى، وتتشكل بصورة رئيسة من الفلسطينيين، وتعمل داخل الأراضي العربية المحتلة لاستنزاف العدو، وتتحرك وتهاجم من جميع الجهات، ومن الداخل، في إطار إستراتيجية عربية محددة للمواجهة.
وبخصوص تثوير الأرض المحتلة كجبهة رابعة، وهي مسألة حساسة، ليس من السهل تحقيقها، ما لم يتم الاتفاق وتقليل التناقض بين الحكومة الأردنية، والمقاومة الفلسطينية، إلا أن وصفي التل أكد ثقته بإمكانية الوصول إلى اتفاق لهذه الخطة. وكانت آخر كلمة دونها في ورقة النقاش، هي كلمة "المعركة”.
بعد عودته إلى مقر إقامته، تعرض وصفي التل للاغتيال، بعد ظهر يوم الأحد 28 تشرين ثاني 1971. وتبنت منظمة لم يسبق أن ظهرت للوجود تدعى " أيلول الأسود”، الحادثة.
وبالرغم من اعتراف المنفذين الأربعة بارتكابهم للجريمة، إلا أن تقرير الطب الشرعي، لم يجزم بأن الرصاصة التي قتلت وصفي، هي إحدى رصاصات أسلحة الأشخاص الذين ادعوا اغتياله، ما يرجح أن الاغتيال تم برصاص قناص، ما يعني أنهم كانوا مجرد أداة وظفت ضمن مخطط استخباراتي كبير، كما كان الحال في حادثة اغتيال الملك المؤسس على أبواب المسجد الأقصى في 20 تموز 1951، واغتيال هزاع المجالي بتفجير رئاسة الوزراء يوم 29 آب 1960. مع الاعتقاد بوجود تواطؤ مصري - أمريكي مشترك، في عملية اعتيال وصفي التل.
في شباط 1972 مثل المتهمون أمام محكمة أمن الدولة في القاهرة، وأسندت إليهم تهمة القتل العمد، مع سبق الإصرار. إلا أن المحاكمة كانت صورية، لتغطية الموقف السياسي الذي اتخذته الحكومة المصرية، استجابة للضغط الذي مارسه الرئيس الليبي معمر القذافي، والرئيس الجزائري هواري بو مدين، ولحسابات سياسية كانت تدور في ذهن السادات، الذي كان يخطط لتسوية سياسية مع إ سرائيل، فتم اطلاق سراح المتهمين بكفالة!
دفن وصفي التل في المقابر الملكية، ونقل جثمانه لاحقا ليدفن في منزله، بناء على طلب عائلته من الملك،والذي وافق تنفيذا لوصيته.
احتل وصفي التل موقعا استثنائيا في تاريخ رؤساء الحكومات الأردنية، فهو على حد تعبير القيادي الفلسطيني نبيل عمرو:” أكبر كثيرا من رئيس وزراء، وأقل قليلا من ملك”.
أما عدنان أبو عودة، فقد عبر تعبيرا بليغا عن المكانة والرمزية التي حازها وصفي التل في وطنه، حيث قال:” أقول كما قال تشرشل مرة :” إن الشعوب تنتج شخصية مرموقة كل مئة عام”، وأعتقد أن وصفي هو حصة الأردن في القرن العشرين”.
وسيبقى تاريخ الثامن والعشرين من تشرين ثاني، استفتاء شعبيا على حضوره الدائم، ورمزا العداء لإسرائيل في وعي الأغلبية الشعبية، وكانت قضية المواجهة مع العدو وهزيمته، قضية مركزية في حياته.
يفتقد الأردنيون اليوم وصفي التل، كرمز لمشروع الدولة الوطنية، والقطاع العام، والنهوض بالأرياف، والتعليم المجاني.
ويدين الإنجاز الأردني جله إلى تلك الفترة التي أسست فيها حكومات التل نظاما اقتصاديا - اجتماعيا - ثقافيا، ابتداء من القطاع العام، مرورا بالإصلاح الزراعي، وليس انتهاء بالفلكلور الشعبي، وقد شملت هذه النهضة الضفتين من دون تمييز.
ومثلما قاد رئيس الوزراء الاستثنائي عملية استبدال تاريخية للنخب البيروقراطية التقليدية في الضفة الشرقية، لصالح أبناء العشائرالمبعدين، عمل كذلك على الإطاحة بعائلات الإقطاع السياسي لمصلحة الفلاحين المهمشين في الضفة الغربية، رافضا دوما أنصاف الحلول.
كان مدرسة في الوطنية، والنزاهة، والشجاعة، والحكم الرشيد، وهي مفردات المشروع الوطني الذي حمله، وآمن به، واستشهد من أجله. وهي المبادئ الأساسية لتي تراجعت في العقود الأخيرة، لتحل محلها، قيم الاستهلاك، والانتهازية والولاءات المصلحية الزائفة والخصخصة، وما رافقها من بيع لأصول الثروة الوطنية، والبزنس السياسي، وحصادها المر.