كتب كمال ميرزا - 

من حيث المبتدأ، لطالما كانت "اللبننة" (من لبنان) هي النموذج القياسيّ القديم الجديد لتقسيم المنطقة، أو "إعادة تشكيل الشرق الأوسط" وفق التعبير الأخير لمجرم الحرب الصهيونيّ "نتنياهو".. و"دستور بريمر" هو الأداة الفعّالة والمجرّبة لتحقيق ذلك!

لو نظرنا على الورق، هل يستطيع أحد الادّعاء بأنّ أيّ من لبنان أو العراق (أو حتى ليبيا) ليس دولةً واحدةً عضواً في الأمم المتحدة، لها حدودها السياسيّة المُعترَف بها، وعَلَمُها الواحد، وعملتها الواحدة، وجواز سفرها الواحد.. وطبعاً منتخبها الوطنيّ الواحد!

ولكن على الأرض، وفي واقع الحال، هل كلّ هذه "الواحدات" الموجودة تمنح الدولة اللبنانيّة أو العراقيّة القدرة على الأداء (functioning) بفاعليّة، ومباشرة موقعها ضمن منظومة الدول الإقليميّة والدوليّة، كـ "كلٍّ مُوحّد"، يمثّل "إرادةً مُوحّدة"، و"مصلحةً مُوحّدة"، و"توجّه" موحّد؟!

هذا هو جوهر "الربيع العربيّ" كتسمية منمّقة لـ "الفوضى الخلّاقة"، وهذه هي الصيغة التي حاولوا فرضها بالقوّة على سورية في الجولة السابقة وفشلوا، وسيعملون على فرضها الآن بالابتزاز عبر تسويقها باعتبارها "الحلّ" الوحيد من أجل "إنقاذ" سورية من "الفوضى" و"الإحتراب الداخليّ"، والحفاظ على "كيانها" و"سيادتها" و"وحدة أراضيها".

وفق هذا المنظور تغدو عبارة "الحفاظ على وحدة أراضي سورية" التي يردّدها الجميع ضرباً من النفاق والخداع، وبمثابة ورقة السولفان اللامعة التي توحي بالبراءة وحسن النوايا والحرص، وتُخفي داخلها السمّ الزعاف الذي يُحضّر لسورية، كلّ سورية، وللمنطقة، كلّ المنطقة، في إطار "صفقة القرن" و"السلام الاقتصاديّ" و"الأخوّة الإبراهيميّة"!

وحدة أراضي أي دولة هي فرع من أصل، لذا فالأصل الحديث عن وحدة الشعب السوريّ قبل الحديث عن وحدة أراضيه!

ولكن مهلاً، أليس هذا ما يحاول البعض الحديث عنه والدفع باتجاهه حاليّاً: دولة مدنيّة ودستور جديد يكفل المشاركة السياسيّة للجميع، ويعبّر عن إرادة جميع مكوّنات الشعب السوريّ؟

الإجابة ببساطة لا، فالشعب الذي يُفرَز طائفيّاً هو ليس شعباً، والدستور/ النظام القائم على الفرز الطائفيّ والمحاصصة الطائفيّة هو ليس دستوراً/ نظاماً!

حتى نستطيع أن نطلق على جماعة بشريّة ما اسم "شعب"، فلا بدّ أن يكون لهذا الشعب سرديّة جامعة واحدة/ مشروع جامعٌ واحد يلتفُّون حوله، ويمارسون اختلافاتهم وخِلافاتهم تحته وبمقتضاه ومن أجله، لا أن تكون الاختلافات والخلافات هي سرديّة/ مشروع هذا الشعب!

انظر إلى الكيان الصهيونيّ مثلاً، لممٌ وحثالات وشراذم تمّ الإتيان بهم من أربع جهات الأرض، ولكنّهم قادرون على الأداء كدولة واحدة لأنّهم ينضوون على تناقضاتهم وصراعاتهم تحت سرديّة/ مشروع واحد، وعلى الرغم من أنّ سرديّتهم/ مشروعهم في حقيقة الأمر مجموعة أكاذيب تمّ توليفها من أساطير توراتيّة وتلموديّة محرّفة!

وبالمثل أمريكا، غزاة ومجرمون منفيّون ومستعبدون خاضوا معركة الحرية ومهاجرون، يوحّدهم على تبايناتهم وتناقضاتهم وأنانيّاتهم "حلم" واحد تمّ تصنيعه من تهويمات الحداثة وما بعد الحداثة ووعود السوق!

هذا الفرق بين نموذج الدولة (والديمقراطيّة) الذي يدّخرونه لأنفسهم، ونموذج الدولة الذي يصدّرونه لنا ويفرضونه علينا!

بالنسبة لنا يُفترض أنّ لنا سرديّتنا/ مشروعنا الخاص، وهو سرديّة/ مشروع حقيقيّ وليس كذبةً أو فيلماً هوليووديّاً: العروبة/ الإسلام ككلّ حضاريّ واحد متكامل لا ينفصل.

ولكن متى ما أصبحت الطائفية بحدّ ذاتها رؤيا للعالم ومنطقاً للتفكير ومنطلقاً للفعل والسلوك، تنفصم العروبة عن الإسلام والإسلام عن العروبة، وتصبح العروبة عروبات، والإسلام إسلامات!

ولا ينعكس هذا التشظّي فقط على وضع الدولة الكلّيّ، وأدائها وثقلها النسبيّ ومكانتها النسبيّة خارجيّاً ضمن منظومة الدول، بل ينعكس عليها أيضاً داخليّاً، وعلى كلّ مكوّن من مكوناتها بذاته، بحيث يصبح الشيعة على سبيل المثال شيعاً وطوائف وفرقاً وتيارات وأحزاباً وفصائل، وكذلك السُنّة، والأكراد، والدروز، والمسيحيّين، وكلّ قبيلة بقبيلتها، وكلّ عشيرة بعشيرتها، وكلّ قرية بقريتها، وكلّ حارة بحارتها.. وهكذا دواليك!

وحده "طوفان الأقصى" في السياق الحالي جاء ليكون أساساً لسرديّة/ مشروع متجاوزٍ لكافة الانقسامات والتشظّيات أعلاه: متجاوزٍ للفصائليّة، متجاوزٍ للعشائريّة، متجاوزٍ للقُطريّة، متجاوزٍ للقوميّة، متجاوزٍ للطائفيّة، متجاوزٍ للوظيفيّة والتَنَفُّعْيّة.. ومن هنا جاء هذا الاستنفار الشرس والدمويّ من قبل الغرب وجميع أعوانه وأذنابه من أجل إجهاض هذا الطوفان، والقضاء عليه، ووأده هو وحاضنته الشعبيّة بشكل كامل وحاسم خشية أن يتوسّع، وينتشر، وتنتقل عدواه حتى إلى البلدان الغربيّة والشعوب والمجتمعات غير العربيّة والإسلاميّة!

ومن هنا أيضاً جاء "طوفان الأمويّ" ليزيح "طوفان الأقصى" ويحلّ محلّه، ويفكّكه، ويبدّد تراكمه وإنجازه، ويعيد الأمّة والشعوب إلى خانة الانقسام والتشظّي والفرز والخلاف والصدام والنزاع!

بكلمات أخرى، ما تحتاجه الدولة، أي دولة، سورية أو غير سورية، هو وحدة الشعب قبل وحدة الأرض، وهو ما لا يمكن أن يتحقّق بدستور طائفيّ ومحاصصة طائفيّة، حتى وإن تم تغليف هذه المحاصصة بوعود برّاقة ولكن كاذبة وخدّاعة بالحريّة والديمقراطيّة والمشاركة السياسيّة وتقاسم السلطة تحت مظلة "الشرعيّة الدوليّة"!

ومشروع تقسيم المنطقة لا يُشترط أن يتخذ شكل التقسيم الحرفيّ على غرار الخرائط التي يتداولها الكثيرون على نطاق واسع عبر السوشال ميديا مثل خريطة "برنارد لويس".. بل التقسيم سيتّخذ، على الأقل في الوقت الحالي، شكل الإبقاء على هذه الدول دولاً موحّدةً ولكن متشظيةً ومنقسمةً على نفسها في إطار كاذب من السيادة ووحدة الأراضي الظاهريّتين، بكون هذه الصيغة أكفأ في إضعاف هذه الدول، وإفشالها، وتسهيل الهيمنة عليها، والتحكّم والتلاعب بها، ونهب مواردها ومقدّراتها، وإمكانيّة تفجيرها وإعادة تشكيلها في أيّ لحظة.. ممّا لو تمّ تقسيمها فعليّاً إلى دويلات أو كانتونات صغيرة مستقلّة!
.