في كتابه " البحث عن الذات " يبين الرئيس المصري أنور السادات رحمه الله، معاناته في الزنزانة 54 بسجن ( قرة ميدان ) عام 1946، كما يلي وأقتبس :

 
" كانت الستة شهور الأخيرة لي في الزنزانة 54 وما زالت أسعد أيام حياتي . . ففيها تعرفت لأول مرة على هذا العالم الجديد . . عالم إنكار الذات إنكارا تاما، بحيث ذابت في غيرها من الكائنات فاتسعت واتصلت بسيد الكون . . طبعا لم يكن ليحدث هذا قبل أن أخلو إلى نفسي، وأعيش معها وأعرفها . . ومما لا شك فيه أيضا، أن قراءتي قد ساعدتني على اكتشاف هذا العالم الجديد . .
أنا لم أدرس التصوف، ولكن ما وقع بين يدي من أقوال وكتابات المتصوفين وجد صدى في نفسي مثل الكثير من قراءاتي في

 السجن، فقد عبرت لي عما كنت أشعر به دون أن تصل درجة إدراكي إلى مرحلة الوعي الكامل والتعبير. ولكن لعل المعاناة من أهم العوامل التي قربت بيني وبين العالم الجديد، الذي عرفت فيه السلام الروحي، كما لم أعرفه من قبل. فآلام العظيمة هي التي تبني الإنسان، وتجعله يرى نفسه على حقيقتها . . وهذه الآلام تندرج تحت الكثير من القيم الإنسانية العليا . .

مثلا غدْر الصديق بي، يفوق كل ألم آخر في الحياة . . لأن الصداقة عندي شيء مقدّس . . ولذلك عندما يغدر بي صديق، أحس أن الأرض قد اهتزت تحت قدميّ . . وعندما أقرر الاستغناء عن الصديق لغدره بي، أشعر أن جزءا من كياني قد انسلخ عني . . وأعاني من الآلام ما لا طاقة لبشر يتحمله . . إلى من ألجأ ؟ وما هو السبيل إلى دفن أحزاني ؟

لم يعد هذا حالي بعد أن تعرفت على عالمي الجديد وعشت فيه . . لا وجود لذاتي . . فالوجود الوحيد لذات الكون وللذات العليا. كان هذا العالم الجديد فتحا حقيقيا بالنسبة لي. ففيه عرفت صداقة الله . . هو وحده عز وجل الصديق الذي لا يمكن أن يخونك أو يتخلى عنك . . فهو الذي خلقك وكونك وحمّلك الأمانة وأعطاك من روحه، وهو لا يعرف إلاّ الحب الذي لا حدود له، والخير الذي ليس بعده خير . . وهو يريد للحياة التي خلقها أن تسير شريفة . . قوية . . جميلة . .

بعدما عرفت صداقة الله، تغيرتُ كثيرا، فلم أعد أغضب أبدا إلاّ في الحق، وأصبحت الحياة بالنسبة لي أرحب وأجمل وأوسع، وزادت قدرتي على التحمّل مهما كانت الأمور والمشاكل التي علي أن أتحملها . . وصار أهم هدف لي في الحياة إسعاد الآخرين، وأصبحتْ البسمة على أية شفاه وخفقة الفرحة في قلب أي إنسان تسعدني، كما لو كان قلبي هو الذي يخفق فرحا . .

ولم يعد للانتقام أو الحقد أي مكان في نفسي . . وأصبح إيماني بأن الخير دائما ينتصر جزءا لا يتجزأ من وجداني . . وزاد إحساسي بجمال الحب وهو الإحساس الذي صورته لي نشأتي بالقرية، كرباط يجمع بين الناس في العمل والحياة . . ثم غذته في ّ أمي خلال مراحل حياتي . . إذ كانت رحمها الله معينا لا ينضب للحب . . كان هذا تكوينها الطبيعي . . مجموعة انفعالات حب لا يعرف الحدود . . !

ولذلك فلعلّ أكثر ما عانيت منه في الزنزانة 54، هو شعوري بالفراغ العاطفي . . فلكي يكون الرجل مكتملا لابد أن تكون له رفيقة . . تحبه ويحبها . . هذه فعلا أعظم نعمة في الوجود . . فعندما تمتلئ نفس الإنسان بالحب، يستطيع أن يتم رسالته. وبدون هذه العاطفة . . يعيش إلى أن يبلغ منتهى العمر، وهو يشعر أنه يفتقد شيئا هاما، وأنه مهما حقق فهو لم يكتمل بعد. كان هذا شعوري في جميع مراحل حياتي . . لم أشعر أبدا أن الحب كقيمة إنسانية عليا، قد تغيرت في نظري يوما ما . . بل على العكس . . إذ اكتشفت أن الحب هو المفتاح لكل شيء.
حدث هذا في الزنزانة 54 عندما تجردت من ذاتي، فنعمت بصداقة الله . . وعَمُرَ قلبي بحبه . . وأصبح ظله سبحانه وتعالى يحتويني . . وعندها أدركت أن الحب قانون تستقيم به الحياة وتزدهر وتثمر، وبدونه كل شيء عدم. لقد اكتشفت ذاتي عن طريق الحب . . وعندما أنكرت هذه الذات وأذبتها في ذات الكون . . أصبح الحب الشمولي لمصر . . للكون . . للخالق عز وجل، هو المنطلق الذي مارست منه وما زلت أمارس واجبي في الحياة . . في الشهور الأخيرة من السجن . . بعد خروجي منه . . عندما كنت عضوا في مجلس قيادة الثورة. . والآن وأنا رئيس جمهورية مصر

هذا ما يجعلني أدعو دائما إلى الحب . . فهو المظلة التي تحمي الإنسان من كل الأزمات . . كل من عرفه لا يعرف الجدب، بل الانتماء والازدهار . . لأن الحب عطاء، والعطاء دائما يبني . . على عكس الحقد الذي ساد حياتنا في الثمانية عشر عاما الأولى، قبل أن أتولى الرئاسة، فهدم كل ما في طريقه، هدما ما زلنا نعاني من أثاره إلى اليوم ". أنتهى الاقتباس.

* * *
التعليق :
في هذا الاقتباس من كتاب أنور السادات " البحث عن الذات " نتعرف على مشاعر السجين الإنسانية بعيدا عن تعقيدات السياسة. ففيها يخلو السجين بنفسه، ويتفكر في عظمة الخالق فيتقرب إليه، ويقدّر أهمية الحرية والعدل والصداقة والحب في الحياة.
كان المواطن أنور السادات قد سجن مع غيره من المواطنين، ظلما ودون محاكمة رسمية، بسبب اتهامه بالعلاقة مع الحكومة البريطانية، ومشاركته في اغتيال أمين عثمان، وزير المالية في حكومة النحاس باشا.

ففي الزنزانة 54 أمضى المواطن أنور السادات عامين ونصف، تحررت نفسه من قيود الحياة، وانفتح على عالم جديد، ووصل إلى مرحلة انكار الذات، وتغليب الرحمة والتسامح على الحقد والكراهية، ثم تحول إلى الصداقة ومحبة الله، وتقديس الحب بكل معانيه، والذي من خلاله تستقيم الحياة وتزهر في مختلف المجتمعات المدنية . . !


.