فارق زمني لا يتعدى ساعات قليلة برز في عمان بين وجهتي نظر في تشخيص محاولة للإجابة عن سؤال ما بعد المرحلة الأولى لوقف إطلاق النار ووقف العدوان على غزة.

وجهة النظر الأولى تبناها خبير الاستخبارات الأردني البارز وابن المؤسسة العسكرية لأكثر من 27 عاماً، نضال أبو زيد، على هامش لقاء تشخيصي بترتيب من نخبة أساتذة وخبراء الكيمياء في عمان. والأخرى بنمط من التزامن بتوقيع وزير الخارجية أيمن الصفدي، على هامش "اجتماعات دافوس”.

في لقاء الكيميائيين، تقصد أبو زيد الإشارة إلى أنه لا يميل من باب التقدير العميق للمقاومة الفلسطينية لإسقاط وصف "حرب العصابات” على قوى المقاومة في غزة، التي بينها فصائل "يسارية وعلمانية” أيضاً، ولا تقتصر على حركتي الجهاد الإسلامي وحماس.

وصف أبو زيد بالبنط العريض فصائل المقاومة الفلسطينية بأنها "قوى تحرر وطني”، فيما كان الوزير الصفدي وفي "استدارة” دبلوماسية وصفية يمكن رصدها وأثارت الجدل في عمان على مدار يومين، يتحدث عن "مجموعات مسلحة” وميليشيات خارج النظام الشرعي.

بعيداً عن خلفية التصريح الجديد والمثير للوزير الصفدي، يمكن القول إنه فاجأ جميع الأطراف بحديثه عن دعم "عودة السلطة إلى حكم غزة” وضرورة وقف "تسليح المجموعات”.

وبعيداً عن "التشخيص العسكري الفني” لضابط الاستخبارات نضال أبو زيد، يمكن بوضوح تلمس "الرأي الشعبي” والذهني الأردني بدون مفاجآت في الحديث عن "فصائل تحرر وطنية”.

عملياً، لا الصفدي مطلوب منه سياسياً تبني ما يقوله خبير عسكري من أبرز النخب التي تقرأ معركة طوفان الأقصى مرحلياً، ولا أبو زيد يتحدث ضمن قيود الوظيفة الرسمية التي تملي على وزير بمواصفات الصفدي البقاء ضمن "الأحرف والمفردات” التي تلائم التعبير عن الموقف الرسمي.

ما قاله أبو زيد "في غاية الأهمية” بالنسبة لرجل الأعمال النشط سياسياً وإعلامياً جليل خليفة، الذي يتابع مسار الأحداث. فيما الناشط النقابي أحمد زياد أبو غنيمة، يخاطب وزير خارجية بلاده بالعامية متمنياً عليه بأن "لا تخربها يا معالي الوزير”.

استعرض أبو غنيمة ما سماه مواقف تسجل بمداد الفخر لممثل الدبلوماسية الأردنية في مواجهة عدوان إسرائيل طوال أشهر، ملمحاً ضمناً إلى أن "تعليقات دافوس” قد تفسد تضامن الأردنيين مع مؤسستهم الدبلوماسية، ومذكراً الصفدي بأنه "الوزير الذي قال يوماً إن حماس فكرة.. والفكرة لا تموت”.

طبعاً، يعترض أبو غنيمة صراحة على عبارة الصفدي عن "مجموعات مسلحة”، متأملاً ألا تكون أكثر من "زلة لسان”؛ لأن من خاضوا الحرب مع الكيان يعبرون عن "مقاومة مشروعة” في كل الأعراف والقوانين الدولية.

سياسياً، المسألة بالتأكيد لا تتعلق بـ "زلة لسان” اضطرت حركة «حماس» رسمياً للرد عليها ببعض الخشونة نسبياً عبر الدكتور باسم نعيم، أحد أبرز المعتدلين في المكتب السياسي للحركة، عندما أصدر تعليقاً على ما قاله الصفدي أو نقل عنه في دافوس يرفض فيه مفردة "ميليشيات”، ويؤكد أن "المحاربين في غزة مقاومة وتحرر وطني”.

الأهم أن الدكتور نعيم، قرر لسبب لا يزال غامضاً، تذكير وزير الخارجية الأردني بأن حركة التحرر الوطني الفلسطينية لم تتدخل ولا تتدخل يوماً بالشؤون الداخلية للشعوب والدول الشقيقة… تلك صيغة توحي ضمناً بأن "حكومة أو حتى دولة حماس” هي التي ترد على الوزير الأردني وما قاله في دافوس، بالصيغة الدبلوماسية التي طالما تغنت بها عمان بعنوان "لا نتدخل بشؤون الآخرين”.

ما استفز المكتب السياسي لحماس على الأرجح، هو اقتراح الصفدي بأن "تحكم السلطة غزة لاحقاً” خصوصاً أن حركة حماس للتو خرجت من مطبخ تشاوري مع الفصائل في الدوحة تتحدث عن "وثيقة بكين” وعن استعدادها لتشكيل "حكومة تكنوقراط مستقلة” لإدارة غزة، فيما وافقت رسمياً على المقترح المصري بتشكيل "هيئة الإسناد”.

المعنى هنا أن حماس عملياً وبعد وقف إطلاق النار "تطور” في موقفها البراغماتي الخاص بالإجابة على سؤال أنتوني بلينكن الشهير "غزة.. اليوم التالي؟”، وضمن تلك المواصفات التي تناسب وزير الخارجية الأردني عندما أبلغ "القدس العربي” في وقت سابق بأن "الأخوة في حماس يعلمون مسبقاً أنه ينبغي لهم الانسحاب من المشهد عند تدشين إعادة الإعمار”.

لذلك، يشعر المناصرون لحركة حماس بأن تصريحات الصفدي في دافوس قد تعني بأن الحكومة الأردنية تتعاطف مع الاجتهاد القائل بـ "حرمان حماس من مكاسب الحسم العسكري في غزة ومن مكاسب الانتصار”، ما يشكل موقفاً عاتباً بشدة سمعته "القدس العربي” مباشرة عدة مرات من الشهيد إسماعيل هنية قبل رحيله.

هنا حصراً، لم يعد السؤال حمساوياً فقط، بل أردني وتطرحه الحاضنة الشعبية العريضة للمقاومة: لماذا قالها الصفدي في دافوس بتلك الصيغة؟

لا توجد حتى مساء الخميس "إجابة صريحة وواضحة” مع تمكين اعتبارين من المتوقع، قبل تحليل الخلفيات، وهما أن الوزير الصفدي شخصياً تحت الضغط الشديد والأضواء داخلياً وإسرائيليا لأسباب متعددة، قد يكون أهمها الحاجة مرحلياً لما يصفه السياسي طاهر المصري بـ "النزول عن شجرة التصعيد مع اليمين الإسرائيلي” استباقاً لـ "تمرير مرحلة ترامب الصعبة المعقدة”.
أما الاعتبار الآخر فهو المتمثل في أن "النص الدبلوماسي” الأردني بعد مرحلة معقدة من "الاشتباك” مع الرواية الإسرائيلية ومناصرة غزة وإغاثتها بات بحاجة ملحة لبعض "التعديلات” التي يقترحها الآن بعض الساسة ضمن استراتيجية "لن نجازف بمستقبل المملكة”.

ما قاله الصفدي في دافوس واستفز حماس وأردنيين كثراً، مهم وخطير وأساسي، ويؤسس لاستدارة في فهم الأردن الرسمي لمرحلة ما بعد وقف إطلاق النار في غزة ضمن سلسلة حسابات مصلحية ووطنية وسياسية معقدة للغاية قبل دخول طاقم الرئيس دونالد ترامب على كل الخطوط، لأن الصفدي لا ينطق عن الهوى ولا يجتهد في النص الرسمي، بل إن مهاراته "الإعلامية” حصراً يقر بها خصومه قبل الآخرين.

ضمناً، تقدم الصفدي بـ "رواية رسمية” تلائم مصالح بلاده لمرحلة ما بعد اتفاق وقف النار وإدخال المساعدات لغزة. لكن بالمقابل، ما قاله أبو زيد للكيميائيين مغرداً خارج "التوصيف الرسمي المعتمد” قد يكون أكثر أهمية في التعبير ليس فقط عن المكونات الاجتماعية الحاضنة للمقاومة وحركة حماس، بل عن تشخيصات الوقائع كما تراها نخب عسكرية متقاعدة صعب جداً المزاودة عليها، وواجبها القول ضمن منطق "اقتضى التنويه”.
بسام البدارين «القدس العربي


.