كتب د. منذر الشرع *
صبروا على أهوال حربٍ لا تبقي ولا تذر، حربٌ تحمل كل مواصفات الإبادة الجماعية، بل أكثر، لأنها لم تقضِ على حياة البشر فحسب، بل دمرت بيوتهم ومسحت الكثير منها من على وجه الأرض؛ وأمعنت قنابلها الذكية والغبية باقتلاع الأشجار ومقومات الحياة؛ وعاثت في البنية التحتية خرابا وفسادا، فلم تستثنِ مصادر المياه، ولا مصادر الطاقة، ولا شبكات الاتصالات، ولا شبكات الصرف الصحي.
هي حرب همجية تتواضع أمام أهوالها فضائع المغول والتتار، لم تترك مدرسة أو مستشفى أو مركز صحي أو اجتماعي أو جمعية أو نادٍ من شرورها ودمارها. حرب تسعى ليس فقط لتدمير الحجر والبشر والشجر، بل لتدمير الوعي "الغزيّ" المجبول على الكرامة والشجاعة والصبر الذي لا يدانيه صبر الجِمال ولا صلابة صخر الجبال.
سنة عجفاء كاملة وازدادت أشهراً ثلاثة، أربعمائة وسبعون يوما، ووحشية آلة الحرب الصهيونية تصب حممها على أهل غزة الصناديد، وما وهنت عزائمهم، ولا كلت شجاعتهم عن المواجهة والصبر على الشدائد والأهوال. تطاردهم طائرات نازيي العصر من حارة إلى حارة، ومن قرية إلى أخرى، وتدفعهم قسرا تحت وطأة جحيم الحمم إلى وسط القطاع، ثم إلى جنوبه، وهناك تلاحقهم، تحرق خيامهم وما تبقى لهم من سبل الحياة. تحاول تدمير نفسيتهم وإبائهم ومرؤتهم، ولكن هيهات.
وحانت لحظة الحقيقة، وتوقف اطلاق النار، وتبعه تبادل الأسرى في مشهد مهيب أربك قيادة العدو، بل صفعها وذهب بأحلامها أدراج الرياح في ساحة فلسطين وسط مدينة غزة، ولكل دقيقة وحركة في ذلك المشهد معانٍ ودلالات كثيرة كانت كافية لصعق الوعي الصهيوني الجمعي.
وجاءت أيام "النفر"، وتعجل "الغزيون" في "رمي جمراتهم" ويمموا وجوههم شطر شمال القطاع "للطواف" بأرجائة التي صمدت في وجه أعتى قوى التجبر والاستكبار.
تراهم يفككون خيامهم، أو ما تبقى منها، يربطون بها ما تيسر لهم من متاع، يلقون بها على ظهورهم، وينطلقون في رحلة الآلام صوب غزة المدينة، وجباليا المخيم، وجباليا البلد، وبيت حانون، وبيت لاهيا، والشجاعية، وحي الزيتون، كلها ثغورٌ كانت شاهدا على إذلال الصهيوني وتدمير دباباته ومجنزراته وجرافاته.
تراهم يخرجون كالعنقاء، يغذون السير عبر شارع الرشيد، وما أدراك ما شارع الرشيد، فذاك "هارون" الذي كان يحج عاما ويغزو عاما، فهاهم الغزيون يحجون عبر شارعه إلى الشمال، ولعلهم يغزون في عام آخر...
خفافا وثقالاً ينفرون. منهم من يحمل متاعا، ومنهم من يحمل أحلاما، ومنهم من يتوكأ على عصا، ومنهم من يدفع كرسيا لأمه التي أقعدها الكبر عن الحركة، ومنهم من يعتلي ظهر "الحنطور"، ومنهم من يسير عبر ذلك الشارع الرمز، ومَنْ يسير بجوارة، بل منهم من اختار أن يتعمد في مياه بحر غزة، ومنهم من ركبوا قوارب صغيرة بمحاذة الشاطئ لعلهم يرزقون بصيد البحر بعد أن مُنعوه.
على الرغم من ألم الفقد، والمأساة، وعلى الرغم من الجوع والعطش والخوف، تراهم يغذون الخطى نحو بيوتهم المدمرة لينصبوا عليها خيامهم في أصدق وأشجع تحدٍ "للنتن ياهو" ومن لف لفه ممن يحلمون بتهجير هذا الشعب الصابر المرابط.
لله درهن نساء غزة السائرات نحو الشمال، كم من خنساءٍ بينهن ترحمت على أبنائها وشدت مئزرها لترحل من الوطن إلى الوطن. وكم "خولة" بينهن تحوم حول أخيها "ضرار" وهو يجندل الأعداء، وما أشبه ذلك بالمقاتل الملثم الذي بزغ يجندل الميركافا قبل أن يرحل آمنا مطمئنا إلى جنات عرضها السموات والأرض.
وهل أتاك حديث صلاح الدين، محرر القدس. لماذا مسميات الشوارع في غزة يسكنها التاريخ والأنفة والعزة؟ لأن أهلها هم كذلك. شارع صلاح الدين الموازي لشارع الرشيد يحمل على متنه برحابة صدر كل أثقال المركبات، الصغيرة والكبيرة، تنؤ باحمالها من البشر والمتاع، وحتى "الحناطير" لها حظها في مشهد هذا الزحف التاريخي الهادر لأبناء غزة الميامين؛ هو مشهد يأتي على البقية الباقية من أوهام الاحتلال الفاشي النازي بتهجير أبناء غزة الباقين في أرضهم زيتونا وعنبا ونخلا. "فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ" (صدق الله العظيم).
فطوبى لأهل غزة رجالاً ونساءً، شيوخا وأطفالاً، وما النصر إلا من عند الله، والله غالب على أمره.
* الكاتب وزير أسبق
.