مع دخول شهر رمضان المبارك، هل يمكن أن نسمع خطبة جمعة أو درساً دينيّاً بعنوان: ربح البيع "أبا رقيّة"؟!

"أبو رقيّة" هو الفنان المصري خفيف الظل "محمد سلّام" الذي اشتهر أكثر ما اشتهر بدور "هجرس"، أو "هدرس"، في مسلسل "الكبير".

"محمد سلّام" كان قد اعتذر في تشرين أول/ أكتوبر 2023 عن دور يؤديه في مسرحيّة كوميديّة كان يفترض أن تُعرض في حينه خلال ما يُسمّى "موسم الرياض".

الفنان "سلّام" برّر موقفه بأنّه لا يستطيع أن يتصالح مع فكرة أنّ الناس يُبادون ويعانون في غزّة بينما هو يقدّم مسرحيّة كوميديّة و"أهزّر" و"أغني" و"أرقص" وكأنّ شيئاً لم يكن.

ـ "أنا حاسس لو إنّي عملت كده حبقى كإنّي زي إللي بقتّلهم بالزبط"..

هذه كانت كلمات "محمد سلّام"!

سلّام كان يتوقع أن يتم تعليق "موسم الرياض" لتلك السنة، ولكن لمّا لم يحدث ذلك، وأزفت ليلة السفر واستحقاق عرض المسرحيّة، وجد نفسه مضطراً لإعلان اعتذاره بشكل شخصيّ من خلال مقطع فيديو نشره عبر السوشال ميديا.

ـ "فدلوقتي لما ربّنا يتوفّانا ونتسئل كلنا انت ساعدت أخوك المسلم في فلسطين عملتله إيه.. أنا ح أرد أقول إيه"؟

هذا كان هاجس "محمد سلّام"!

والآن، وبينما نلج شهر رمضان الثاني بعد انطلاق معركة "طوفان الأقصى" المباركة، تتحدّث التقارير المتداولة عن غياب الفنان "محمد سلّام" عن "الموسم الرمضانيّ" الحاليّ مع أنّه كان ضيفاً رمضانيّاً ثابتاً على شاشاتنا طوال السنوات الماضية، وأنّ أيّا من شركات الإنتاج لم تتعاقد معه على أي عمل جديد منذ أن نشر مقطع الفيديو وأعلن اعتذاره (أم نقول براءته أمام الله) على الملأ!

ألا يستحق هذا الموقف الإيمانيّ من "محمد سلّام" أن يكون موضوعاً لخطبة جمعة أو درس دينيّ؟ وبماذا يختلف موقف "سلّام" هنا عن قصص الصحابة والتابعين والصالحين التي اعتدنا أن نقرأها في كتب التراث ونتأثّر بها؟

كلّنا نعرف قصة هجرة الصحابيّ "صهيب بن سنان" رضوان الله عليه، أو الذي يُعرف بـ "صهيب الروميّ"، وكيف ضحّى بماله كلّه وهو صاحب ثروة، ودفع به إلى مشركي مكّة الذي كانوا يطاردونه في سبيل أن يخلّوا بينه وبين الهجرة إلى المدينة المنورة واللحاق بالرسول صلى الله عليه وسلّم، وعبارة الرسول الشهيرة التي قالها عندما أهلّ هذا الصحابيّ الجليل: "ربح البيع أبا يحيى"؟

بماذا يختلف موقف الفنان "محمد سلّام" (أبو رقيّة) عن موقف "صهيب بن سنان" (أبو يحيى)؟

بل كنسبة وتناسب، حجم الأموال والشهرة والأضواء ونمط العيش التي تنازل عنها "محمد سلّام" تفوق في إغرائها ما تنازل عنه "صهيب الروميّ" بأضعاف!

غالبية الناس يتعاملون مع "زمن الصحابة" باعتباره قد راح وولّى، حتى أولئك الذين يدّعون أنّهم يحبّون "السلف الصالح"، ويجلّونهم، ويريدون استعادة أيامهم واستحضار زمانهم ولو بحدّ السيف!

هذه الحفاوة المبالغ فيها بالصحابة والسلف ليست بالضرورة مظهر اعتبار واحترام وتقدير وتوقير.. ففي أحيان كثيرة، وعبر "التوظيف" و"الخطاب" اليوميّين، تكون هذه الحفاوة مظهر نفاق للنفس، والتماس أعذار كاذبة لها بطريقة واعية أو غير واعية، بحجّة أنّنا كبشر متدنِين أو أقل مرتبة في هذا الزمان عاجزون عن الإتيان بمثل تلك الأفعال والمواقف والمآثر و"الخوارق" التي كانت تأتي بها تلك الفئة الما - فوق إنسانيّة من البشر، أو الـ "سوبر بشر"، المسمّاة "صحابة"!

زمن الصحابة لم ينتهِ، وبماذا يختلف موقف "محمد سلّام" (وغيره كثيرون) عن مواقف وسلوك الصحابة؟! وبماذا تختلف مواقف وسلوك أهالي غزّة ومخيّمات الضفّة برمّتهم ومناصريهم وجبهات إسنادهم طوال الـ (15) شهراً الماضية؟!

بل نحن في زمن أهم من زمن "أصحاب الرسول"!

فأولاً "تلك أمّة قد خلت"، وأفضتْ إلى ما قدّمت وكسبتْ واكتسبتْ، ولن نُسأل "عمّا كانو يعملون"..

وثانياً نحن في زمن "إخوان الرسول"، أولئك الذين قال عنهم الرسول صلى الله عليه وسلّم بصورة استثارت غيرة الصحابة أنفسهم: "وددتُ أن ألقى إخواني"، وفي رواية أخرى "متى ألقى إخواني"؟!

ألا يستحقّ ذلك كلّه أن يكون موضوعاً لخطبة جمعة أو درس أو موعظة؟

قد يأتي أحد المتنطّعين ويقول إنّ موقف "محمد سلّام" قد كان موقفاً منفرداً وعارضاً وعابراً، أو ربما يتفزلك أكثر ويقول غداً سيأتي مَن يتوسّط بين سلّام و"الساخطين عليه" وتعود المياه لمجاريها!

حسناً، وما الضير في ذلك إذا حدث؟ يكفي "سلّام" الموقف الذي سجّله في التوقيت والسياق والكيفيّة التي سجّله بها!

المثل الدارج يقول: "الحجر في مطرحه قنطار"، وموقف "محمد سلّام" في "مطرحه" قد كان يكافئ ألف قنطار!

الله تعالى في الآية (38) من "سورة النور" يقول: ((ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب)).

ألا يكفي "محمد سلّام" أن يكون هذا الموقف هو "أحسن ما عمل"؟!

و"أهل بدر" قد بشّرهم الله بغفرانه "سلفاً" نظير ما أبلوه من بلاء في سبيل الله يوم بدر.

فلماذا ستسري هذه المعاني التي يُفترض أنّها هدي صالح لكل زمان ومكان على الراحلين والغابرين.. ولن تسري على "محمد سلّام" ومَن يأتون بمثل ما أتي به في هذا الزمان؟!

مرّةً أخرى، ألّا تصلح كلّ هذه المعاني موضوعاً لخطبة أو درس أو موعظة؟!

وفق منطق هذا الزمان، غير مستبعد أن يأتي أحد "علماء السلطان" أو "مفتي الفضائيات"، ويتخذ من حالة "محمد سلّام" مثالاً وعبرة، ولكن ليس للاحتفاء والاقتداء، بل للإدانة والتفنيد!

كأن يعتبر أنّ "محمد سلّام" قد أخلّ بعقده، والله أمرنا أن نوفي بالعقود.. أو أنّ "محمد سلّام" قد عصى "وليّ الأمر"، وطاعة وليّ الأمر واجبة حتى لو أمرنا بـ "الترفيه"!

بالعودة إلى فيديو "محمد سلّام"، فقد كان قد استفتح كلامه باقتباس الدعاء الذي يرد على لسان سيدنا موسى عليه السلام في "سورة طه":

((.. ربّ اشرح لي صدري، ويسّر لي أمري، وأحلل عقدة من لساني، يفقهوا قولي)).

قد شرح الله صدركَ ويسّر أمركَ "أبا رقيّة" حين ألهمك الاعتذار ونشر هذا الفيديو، وقد حلّ عقدة من لسانك يا "هدرس" وفَقِه مبغضوك كلامك كلّه حدّ الإفحام وإلزام الحجّة.. ولكن ((.. أم على قلوب أقفالها))!

خلاصة القول، قد ربح بيع "محمد سلّام" إن شاء الله واستحق أجره عند بارئه في الدنيا والآخرة. والسؤال: ماذا لدى قادة وزعماء وحكّام وأثرياء ومترفي العرب، وماذا لدينا نحن جميعاً "صوّام" و"قوام" رمضان المفترضين، من بيع فنقدمه أمام الله تعالى حين يسألنا يوم القيامة سؤال غزّة وفلسطين والطوفان؟!
.