كتب: عريب الرنتاوي -
ظنّ بعضنا، أن خطة ترامب لتهجير الغزيين عن وطنهم، قد سقطت، أو طواها النسيان، بعد أن اصطدت بجدار رفضٍ صلب، فلسطيني – أردني – مصري، مدعوم عربياً...هذا ليس صحيحاً على الإطلاق، الخطة تراجعت، ولكنها لم تسقط، وإدارة ترامب، أو بالأحرى، عائلة ترامب، ذات الخبرة "العقارية" المتراكمة، لم تيأس بعد، ولم تتراجع شهيتها لتحويل غزة إلى لاس فيغاس أو ريفييرا شرق المتوسط.
ليس الفيديو الوقح، والمُتخفف من أية حساسية أخلاقية أو إنسانية، الذي أقدم الرئيس الأمريكي على نشره بعنوان "غزة ترامب"، سوى مثالٍ واحدٍ دالٍ على ما نقول...وليست "القمة العقارية العالمية" التي يتحضر صهره، سيء الذكر والسمعة، جارد كوشنير، والمخصصة لجمع الأموال، وتوزيع الأسهم والحصص على الشركاء "المطورين"، سوى غيض من فيض ما يدور في الصدور والعقول الصدئة، التوّاقة لتعظيم أرباحها، حتى وإن كان الثمن: اقتلاع شعب من وطنه، ومقارفة واحدة من أبشع جرائم التطهير العرقي التي عرفها التاريخ.
وليس التهجير، نزوة من نزوات ترامب التي لا تعد ولا تحصى، فالمشروع سابقٌ له، وربما يستمر بعده، وهو يقع في قلب الفكرة الصهيونية التي نهض مشروعها بالأساس على ركيزتين اثنتين: المجزرة بوصفها أداة السيطرة على الأرض وتهجير السكان...والأسطورة/الخرافة التلمودية حول الأرض الموعودة و"أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، كونها "الغطاء العقائدي" لأكثر مشاريع الاقتلاع والإلغاء والتبديد، همجيةً وتوحشاً؟
إن القول بأن فكرة التهجير ليست جديدة، وأن عمرها من عمر الكيان والمشروع من قبله، لا ينبغي أن تبعث إحساساً زائفاً بالاطمئنان، كأن يقول البعض: لقد تحدثوا به مراراً وتكرارا، طاشت سهامهم من قبل وستطيش من بعد...التهجير مشروع قديم، لكن الجديد الحاسم، أن البيئة الاستراتيجية التي يطرح فيها اليوم، جديدة كل الجدّة، وتدفع على الاعتقاد بأن فرص تجسده، باتت أعلى من أي من وقت مضى.
نتنياهو "التصحيحي"!
في هذا السياق، نفتح قوسين لنسبر أفكار نتنياهو "التصحيحي"، الذي لم يتورع عن البوح بما يجيش في صدره، فالرجل الذي يفاخر بأنه "ملك إسرائيل"، حكمها أكثر من غيره، حتى من "الآباء المؤسسين"، يريد أن يصحح أخطاء استراتيجية لثلاثة منهم: ديفيد بن غوريون حين أحجم عن تهجير فلسطيني -48 إبّان النكبة الكبرى...إسحاق رابين حين قبل بتقاسم يهودا والسامرة (الضفة الغربية) مع الراحل ياسر عرفات زمن أوسلو...وأريئيل شارون حين قرر الانسحاب (إعادة الانتشار) من جانب واحدٍ عن قطاع غزة...تلكم خطايا استراتيجية، يعتقد نتنياهو واليمين الفاشي، أن الأوان قد آن لتصحيحها والعودة عنها.
معنى ذلك، كما تشي به الكلمات التي تصدر من أفواههم، والأفعال التي يمارسونها بكل توحش وسادية، أن التهجير الذي قد يبدأ بغزة، لن يتوقف عندها، وأن نجاحه في القطاع، سيكون بمثابة "بروفة" لما يمكن أن يحصل في الضفة الغربية، وأن المواطنين الفلسطينيين تحت احتلال 48، ليسوا بمنأى عن هذا التهديد، وأن العملية برمتها، تتم بتدرج متسارع، وأنها محكومة بأولويات أمنية واستراتيجية.
وتهجير الغزيين، مشروع لا يمكن فهمه بمعزل عن أوسع عملية "هندسة استراتيجية" تجري للإقليم برمته، بدءاً من فلسطين، وليس انتهاء بلبان ما بعد 27 تشرين الثاني، وصولاً إلى سوريا ما بعد الثامن من ديسمبر، في حين يُطِلُ على الإقليم شبحان برأسين قبيحين: شبح التطبيع الذي ما زالت واشنطن مؤمنة بجدواه الاستراتيجية، والأهم بإمكانية تحققه، وشبح هجوم إسرائيلي، منفرد أو منسق من واشنطن، ضد إيران، بهدف استكمال مسلسل الاستباحة والاستهداف للمحور الذي كان ممتداً من قزوين حتى شرق المتوسط.
وفي ظني، إن مشروع تهجير أهل غزة، لا يمكن أن يُدرك بتمام معانيه، من دون قراءة متفحصة لما يجري في الضفة الغربية من حرب تطويق وتهجير، وما يجري في لبنان من عربدة وتنمّر، وما يجري في سوريا من استباحة متمادية، وما ينتظر إيران من خيارات تراوح ما بين "أقصى الضغوط" والضربة العسكرية.
لا عزاء لعرب الاعتدال
على أن هذا ليس سوى جانب واحدٍ من المشهد، فالصورة لا تكتمل في عصر الحلف "غير المقدس"، الذي تتوثق عراه بين يمين شعبوي نهم جشع، يمسك بزمام البيت الأبيض، ويمين فاشي مجرم، يمسك بتلابيب "الكرياه"...الصورة لا تكتمل من دون النظر إلى المقاربة الجديدة مع محور آخر، محور حلفاء واشنطن وما يعرف بـ"معسكر الاعتدال العربي"...فالهندسة التي تقترح واشنطن، والدور الذي تخصصه لتل أبيب في إطارها، يحتمل الإضرار وجودياً بالأردن، وتهديد أمن مصر واستقرارها، والتطاول على موقع ومكانة ودور المملكة العربية السعودية...لا عزاء لعرب الاعتدال، والبلدوزر الأمريكي يشبه نظيره الإسرائيلي في عدم تفريقه بين عدو ومشروع حليف...البلدوزر الإسرائيلي يجرف السلطة الفلسطينية ويُهمشها في غمرة الحرب الضروس على المقاومة في غزة والضفة...والبلدوزر الأمريكي، يكاد يجرف عرب الاعتدال، فيما هو في ذروة المطاردة والتعقب لمحور المقاومة...من لا يرى الصورة بوجهيها، يجانبه الصواب.
التهجير يستهدف مصر والأردن في أمنهما الوطني والقومي، ويُعَرّض مكانة وصديقة الحكم في البلدين لأصعب اختبار، والتساوق معه ليس خياراً أبداً، فعاقبته وخيمة داخلياً، وقد يلعب دور "المحفّز – catalyst" في استحداث وقائع وتغييرات لا تحمد عقباه ولا يمكن التنبؤ بها من الآن...الأردن، بخلاف مصر، يبدو التهجير بالنسبة إليه، تهديداً وجودياً للهوية والكيان، ووصفه لحالة مستدامة من عدم الاستقرار الداخلي في ظل ميزان ديموغرافي شديد الحساسية، ولن يكون الأردن بعد التهجير إن تم، هو ذاته الذي عرفناه منذ العام 1921.
غاز و"بهارات"..."نيوم" والسويس
ويخطئ من يظن، أن أطروحة التهجير كما تجري بلورتها على لسان ترامب وفريقه وصهره، تقتصر مراميها على تصفية القضية الفلسطينية بتخليص إسرائيل من فائض الديموغرافيا الغزّية، أو أنه سيكون مصدر ربح وفير لزعيم "مافياوي" على حد وصف توماس فريدمان لدونالد ترامب...هذا عصفوران اثنان يريد ترامب رميهما بحجر واحد...ثمة عصافير أربعة أخرى، ذات أبعاد استراتيجية لا تقل أهمية، كامنة في ثنايا مشروعه كذلك...بدءاً بغاز شرق المتوسط (الفلسطيني) الواعد، مروراً بالمشروع القديم – الجديد: قناة بن غوريون التي يُراد بها تجريد مصر من واحدة من أهم مقوماتها الاقتصادية والاستراتيجية، وليس انتهاء بـ"ممر البهارات" الهندي – الأوروبي، أحد أكبر مشاريع التطبيع وبناه التحتية، والمصمم في الأساس لضرب مبادرة "الطريق والحزام" الصينية...وفي ظني، وليس كل الظن إثم، أن هذا المشروع، يستهدف ملاقاة "نيوم" السعودية، درة تاج خطة 2030، وربما محاولة لإن يكون محورها، ومركز التحكم بها والسيطرة عليها.
الفلسطينيون والعرب، الرسميون بالطبع، يدركون ذلك كله، وربما لديهم من المعطيات، ما يفوق ما بحوزتنا منها....لكنهم لا يتحركون على نحو كفيل بإحباط مرامي المشروع واستهدافاته...لا يقابلون "تغيير النموذج - Paradigm Shift" الذي استحدثته تل أبيب وواشنطن في نظرتيهما إليهم وتعاملهما معهم، بتغير مماثل في أنماط وأدوات التعامل ودرء التهديد وجلب المنافع...مشروع التصفية لم يُقنع عباس حتى الآن بمجرد إجراء تغيير وزراي لتفادي أسئلة "اليوم التالي" واستحقاقاته، والتهديد للأمن القومي العربي، لم يدفع حكومات الدول المستهدفة، حتى بالتلويح باستخدام أوراق القوة التي بحوزتها...لا شيء يشي حتى الآن، بأن النظام الرسمي العربي (ومن ضمنه الفلسطيني)، قد ارتقى في سلوكه ورهاناته، إلى مرحلة الاستجابة للتحديات، والرد عليها بما يليق بها، ليس من باب التضامن والاسناد للفلسطينيين، ولكن من باب الدفاع عن الذات والمستقبل.