كتبت لميس أندوني * 

فيما تستمرّ تهديدات إسرائيل بإعادة تشكيل خريطة المنطقة العربية، يبشّر المبعوث الخاص للبيت الأبيض إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، بأن الظرف أصبح ملائماً لأن تنضمّ سورية ولبنان إلى الاتفاقيات الإبراهيمية، التي أبرمتها إسرائيل مع الإمارات، وتبعتها البحرين، ثمّ المغرب والسودان في عام 2020. وذلك فيما تتحدّثان، واشنطن وتل أبيب، وكأنّ توغل الجيش الإسرائيلي في الأراضي السورية، وضمّ هضبة الجولان المحتلّة إلى الدولة الصهيونية، وتدمير جنوب لبنان، كانت رسائلَ سلام ووئام. وتؤكّد تصريحات ويتكوف غير المستغربة أن عدم مبالاة واشنطن بالقصف والانتهاكات الإسرائيلية للأراضي السورية، واستمرار توسّع الجيش الصهيوني في لبنان، خلافاً لاتفاق وقف إطلاق النار، تكمّل بعضها. فأميركا تستثمر القوة الإسرائيلية لتملي شروط التطبيع على سورية ولبنان، مستفيدةً من اندحار النفوذ الإيراني، والضربة القاسية التي تلقّاها حزب الله. وإسرائيل تعرف جيّداً أنّ لا لبنان ولا سورية يشكّلان تهديداً لها، لكنّها فرصة للتمدّد وبسط الهيمنة بدعم أميركا.

لا أحد ينتظر من الإدارة الجديدة في دمشق الدخول في مواجهة عسكرية مع إسرائيل، ولا من لبنان إعلان حرب على من عاث بأراضيه وجنوبه خراباً ودماراً بفعل أسلحة التدمير الأميركية. لكن، لا بدّ من موقف عربي وأممي داعم للبلدَين، أو على الأقلّ ألا تستقوي دول عربية على البلدَين للضغط عليهما لقبول ما سيكون تطبيعاً وقبولاً للهيمنة الإسرائيلية والاحتلال، أو وجود الجيش الإسرائيلي في أجزاء من أراضيهما. أكثر ما يخيف دخول دول عربية على الخطّ بحجّة إعادة بناء ما دُمّر في البلدَين في مقابل الدخول في العلاقات التطبيعية مع إسرائيل. في الحالة السورية بشكل خاص، يحاول البلد النهوض وتضميد الجراح، وآخر ما يفكّر فيه السوريون التورّط في حرب، وإسرائيل تعرف هذا، لكنّها تصرّ على التدخّل وإطلاق التهديدات، في ابتزاز واضح بدعم من أميركا، التي خفّفت من العقوبات على سورية، وإن لم ترفعها جميعاً، بحجّة الحرص على ضمان حقوق الأقليات، لكنّها (العقوبات) سلاح تستطيع توظيفه لفرض اتفاقية "سلام"، هدفها تشريع الاحتلال الإسرائيلي للجولان، وأراضٍ أخرى قد تختارها إسرائيل.

لا يمكن تجاهل ما يقوله ويتكوف، إذ إنه تكملة لما بدأه الرئيس الأميركي دونالد ترامب في ولايته الأولى من توسيع للتطبيع العربي الإسرائيلي، بعد أن نجح في تحقيق الاتفاق الإبراهيمي، الذي هدف (ويهدف) إلى نقل "اتفاقيات السلام العربية الإسرائيلية"، إلى حالة قبولٍ عربيٍّ بالاحتلال الإسرائيلي وبالمشروع الصهيوني الاستيطاني، إلى أن يصبح جزءاً من الثقافة الشعبية العربية، في انقلاب على التاريخ وعلى حقوق الشعب الفلسطيني، بل وشعوب المنطقة بأسرها. تدرك أميركا أن سورية مشغولة ببناء نظام سياسي جديد، وأن جلّ هم السوريين، إضافة إلى تأمين الغذاء ودخولٍ تؤمّن مستقبلهم، هو ألا يجد الشعب السوري نفسه تحت حكم فئة متنفّذة تحرمهم من حقوق المواطنة والمشاركة السياسية، التي حُرِّمت عليهم عقوداً، وإضافةً إلى الخوف من تشرذم وحدة الأراضي السورية. أي أنها فترة مخاض عسير تبرز فيه الاختلافات والخلافات، وهذه أجواء إذا لم يتم حفظ حرّية الرأي والتعددية ستشكّل ثغرةً يمكن لأميركا وإسرائيل الدخول منها لمنع نهوض سورية، فكلٌّ من القوّتَين تريد أن ترهن تقدّم سورية بالرضوخ لشروط كلٍّ منهما. لذا، ما يدور من خلافات وانتقادات حيال مؤتمر الحوار السوري، الذي عقد أخيراً في دمشق، في غاية الأهمية. إذ لا سبيل غير الحوار والالتزام بالحرّيات لإرساء أسس نظام سياسي ديمقراطي وتعدّدي، على أساس دستور يضمن المساواة والعدالة والحدّ الأدنى من العدالة الاجتماعية، فلا يمكن الإكمال من دون الالتفات إلى المطالب والرؤى، وإتاحة المجال للنقد وأخذه بجدّية، فهي عملية بناء جمعية، ولا تقوم على أفراد أو فئة موجودة في رأس الحكم.

عليه، من الضروري الموازنة بين عملية البناء والحفاظ على السيادة السورية، فلا يمكن الفصل بين المسارين. إذ إن الحفاظ على الوحدة الداخلية هو ضمانة للحفاظ على الاستقلال والسيادة، وفقدان السيادة تحت الضغط والامتثال إلى ما ترمي إليه واشنطن من جرّ دمشق للانضمام إلى الاتفاق الإبراهيمي، مقدمّة لتدخّل وانتهاك أميركي إسرائيلي في السيادة السورية. فاتفاقيات التطبيع مع إسرائيل، كما رأينا في الأردن ومصر، ليست سياسية فحسب، وإنما خطورتها تكمن فيما يسمّى التعاون الاقتصادي، وبخاصّة في مجال الطاقة، خصوصاً أن سورية غنية بمصادر الطاقة والمياه، فحين تتحدّث إسرائيل عن التشارك في المصادر، فذلك يعني أن تأخذ هي حصّة الأسد، معتمدة على ضغط جبروتها العسكري.

لذلك، لا بدّ من الاهتمام بالمخاطر التي تمثلها إسرائيل وواشنطن في مرحلة إعادة التكوين، والتنبه إليها والوعي بها وبأهميتها، لأن واشنطن وتلّ أبيب لا تهملانها، ولا تمهلان الآخرين للإعداد والتحضير، إذ إنهما تجدان أن هذه هي اللحظة المناسبة للانقضاض لفرض ما تريدان.

واشنطن وتل أبيب تدركان جيّداً مغزى القاعدة الاستراتيجية القائلة إنه "لا حرب من دون مصر ولا سلام من دون سورية" في المنطقة ككل. لذلك تسعيان إلى فرض اتفاق تطبيع مرّة واحدة، وإلى الأبد، على سورية. كانت الولايات المتحدة تعتقد أن السلام مع السعودية هو مفتاح السلام مع سورية، وأن التطبيع السعودي سيُضعف موقف الجميع. لكنها الآن تحاول أن يكون "تكويع" سورية هو المفتاح لتطبيع شامل. غير أن ذلك لا يعني تشتيت النظر عن عملية بناء نظام جديد يكون للشعب صوت وإسهام حقيقي في تشكيله والحفاظ على حقوقه، لكن عدم إهمال الخطر الإسرائيلي والاستخفاف به، والمساهمة في اتخاذ موقف قوي مستند إلى القانون الدولي، جزء من بناء دولة القانون، والحفاظ على وحدة سورية وثرواتها ومقدراتها. من السهل الانشغال المفهوم بعملية البناء والاعتراض المشروع على أيّ إجراء يؤسّس للانفراد بالحكم، ولا بدّ من الاشتغال بهذه الأمور الأساسية، كلّها، غير أنه لا يمكن تغييب المخاطر الخارجية، وكأنها غير موجودة.

يقع العبء الأكبر على من يتولى سدّة الحكم، وعلى الدول العربية، فمشاركة سورية في القمّة العربية المزمعة في القاهرة هي فرصة (أقولها وأنا كلّي شكوك) لدعم عملية بناء سورية وتحصينها من أي ضعف تجد فيه إسرائيل منفذاً لتفكيك بلد عربي، مؤهّل لاستئناف دور قيادي في العالم العربي. لا يعني ذلك إغفال تثبيت الحرّيات باسم مواجهة إسرائيل، فتلك حجّة مضلّلة، فانعدام الحرّيات والتعدّدية هو أحد أهم أسباب الرضوخ لإسرائيل، أولوية الشعب السوري ببناء دولته ونظامه محقة، وإن كان لا يمكن إهمال عدوٍّ متربّصٍ، والأساس هو الوعي، فهو شرط لمشاركة قوية في صنع القرار.


* العربي الجديد
.