كتب د.عبدالحكيم الحسبان

وفي الأشهر الأولى من العام 2025، تفاقمت الازمة التي تعيشها جامعة اليرموك وهي المؤسسة الوطنية الأكبر والأهم شمالا لتبلغ حدودا خطرة تتجاوز حدود موضوع المديونية الفلكية التي باتت تثقل على كاهلها وعلى كاهل كل مجتمع الشمال، واقتصاده، واجتماعه. ففي الاشهر الاخيرة، إنتقلت الازمة من أزمة مديونية سبق وأن أرخت بظلالها الثقيلة على كل مفاصل العمل الاكاديمي والبحثي والعلمي والتدريسي والاداري والطلابي في الجامعة نتيجة لجوء ادارات الجامعات في السنوات الاخيرة لاقتطاعات مستمرة في كل هذه المفاصل، وصولا لمداخيل العاملين وما يتقاضونه شهريا وأثناء سنوات تفرغهم العلمي، لتتفاعل الازمة وتتوسع.

فالازمة باتت تتفاقم ولتتحول من أزمة ظاهرها المديونية إلى أزمة وطنية باتت تلقي بظلالها على العلاقة بين جامعة اليرموك ومؤسسات الدولة المختلفة من قبيل مجلس التعليم العالي ووزارة التعليم العالي. كما باتت الازمة تنتج جوا متوترا بل ومتفجرا يطبع العلاقة بين رئاسة جامعة اليرموك ومجلس أمناء الجامعة. وأما داخل الجامعة نفسها فالأزمة باتت تنتج انقساما أكاديميا خطيرا ليس من النوع المحمود الذي نعرفه في الجامعات المرموقة وحيث يكون الانقسام بين تيارات اجتماعية طبقية أو سياسية ايديولوجية، بل بات الانقسام هو بين شريحة واسعة تعبر عن ألمها ووجعها لما آل اليه حال مؤسستهم، وبين جماعة أخرى وإن كانت أصغر حجما تمثلت وتصورت واهمة أن ما يجري هو "معركة" ضد الرئيس وليس سياساته، فاذا هي تتخندق إلى جانب الرئيس معتبرة أن "المعركة" هي بين من هم مع الرئيس ومن هم ضده وحيث غابت اليرموك كجامعة باعتبارها الاصل في كل هذا الذي يجري.

منذ ما يزيد على الثمانية أعوام وأنا أكتب واحذر من المسارات الخطرة التي تسير بها الجامعة، ومنذ ثمانية أعوام نلحظ إمعانا في سلوك هذه المسارات بل والتمترس خلفها، وإرهاب كل من يحذر من هذه المسارات، على قاعدة اكتبوا ما شئتم، فيا جبل ما يهزك ريح، لنصل في هذا العام وبعد سنين طويلة من سلوك هذه المسارات المدمرة في الادارة وفي قيادة الجامعة داخليا، وفي قيادة علاقة الجامعة مع مؤسسات الدولة والمجتمع إلى إن الجبل الذي اعتقد أن الريح لن تهزه بات أشبه بورقة شجر تتقاذفها العواصف والاقدار.

نعرف أن اليرموك وحالها هو جزء من حال هذا الوطن كله. ونعرف أن كثيرا من فصول الحكاية اليرموكية، هي فصول من الحكاية الوطنية الأوسع والاكثر امتدادا. ولكن ما هو مثير للاستهجان أن تكون الجامعات التي يفترض أنها الفضاءات الاكثر علما ومعرفة وتكدسا بالنخب التي من المفترض أن تقود المجتمع كله باتت هي نفسها بؤرا للازمة والاعتلال. فكيف لمن يعاني الاعتلال في بيته أن يقدم الصحة والعافية لمجتمعه الكبير. وهنا تكمن المفارقة المأساة.

اليرموك وكثير من جامعتنا سيدي دولة الرئيس باتت في اخطر مراحل الاعتلال. ويمكن لي أن أشير بعض مظاهر هذا الاعتلال الرئيسة إذ لا يتسع المقام في مقالة صحفية لسردها كلها. فالمديونية التي هي حديث الجميع باتت فلكية، وليس حجم المديونية هو الخطر الكبير، بل إن أخطر ما فيها هو تسارعها يوما بعد يوم وعاما بعد عام. ويكفي أن اشير إلى تصريح عطوفة رئيس الجامعة في حديثه الى الصحافي احمد التميمي بتاريخ 22 اب من العام 2022 على موقع صحيفة الغد حين صرح عطوفته أن مديونية الجامعة هي 30 مليون دينار. وإذا أخذنا اكثر الارقام حذرا حول المديونية حاليا فهي ربما تتجاوز الثمانين مليونا. ما يعني أن المديونية واذا استمر عليه الحال سوف تتضاعف كل عام أو عامين. علما أن خدمة المديونية باتت تستهلك رقما فلكيا بالنسبة لجامعة بالمقاييس الاردنية وهي تتجاوز الاربعة ملايين دينار سنويا.

في فهم عمق الازمة التي تعيشها اليرموك أكرر دوما أن المديونية ليست هي الازمة الحقيقية في هذه الجامعة بل هي الجزء المرئي من الازمة الذي يمكن لمن يريد أن يكون فهما سطحيا عن المشكلة من تحقيق غايته. أجزم أن أزمة المديونية ربما تكون هي أسهل مشاكل الجامعة. ودعونا نتخيل لحظة تقوم جهة ما بدفع كل مبالغ المديونية وتصفيرها، فهل من ضمانة أن الحال والظروف والشروط والمنظومة التي أنتجت المديونية لن تعيد انتاج هذه المديونية وباضخم من ارقامها في غضون سنوات قليلة. أزمة اليرموك ليست في المديونية، بل هي في نسق الحوكمة الذي ساد الجامعة منذ سنوات وربما يكون العام 2015 هو العام المفصلي على صعيد تحديد المسارات الحزينة التي سلكتها هذه الجامعة الحزينة. ففي هذا العام جرى تسلم وتسليم للقيادة، وكانت ارقام المديونية تتباين ارقامها بين ال 12 مليونا وال 16 مليونا. ومنذ هذا العام نمت المديونية وباتت تتضاعف، وباتت الجامعة تعيش ازمات وبدأ منذ هذا التاريخ موسم عزل الرؤساء الذي لم يكمل أي منهم فترته المحددة قانونا بأربع سنوات.

في توصيف أزمة الحوكمة التي تعيشها الجامعة، من المهم الاشارة إلى حجم القطيعة التي تعيشها مراكز صناعة القرار المختلفة عن الفضاء الجامعي بتفاصيله الاكاديمية ولكن بتفاصيله الثقافية والاجتماعية أيضا. فمجلس التعليم العالي لا يراعي الخصوصيات الثقافية والبيئات المحلية التي تحيط بكل جامعة، وتحدد شكل مكوناتها الطلابية والادارية والاكاديمية. ومجلس الامناء بات يحكي الكثير عن نسق العلاقة المتوترة بينه وبين الرئيس، كما عن نسق العلاقة من تشابك للمصالح بين بعض مكوناته ومكونات رئاسة الجامعة. وأما مجلس الجامعة فقد باتت تثار الكثير من الاسئلة عن سلامة قراراته ومدى استنادها للتعليمات السائدة وللتنسيبات المناسبة من الاقسام والكليات والدوائر.

وفي توصيف أزمة الحوكمة والادارة التي تعيشها الجامعة، لا بد أن أشير إلى بعض التفاصيل المتعلقة باحدى الكليات، وأشير أليها لعدة اسباب؛ منها الاهمية التاريخية التي كانت تلعبها هذه الكلية على صعيد قيادة الجامعة علميا وماليا وطلابيا وبحثيا، ومنها أن جزءا كبيرا من صناعة القرار في الجامعة وبالتالي من صناعة الازمة في الجامعة يتعلق تحديدا بمجموعة وعناصر اكاديمية تنتمي لهذه الكلية، ومنها أن كثيرا من الحديث الذي يدور بين العاملين في الجامعة في خضم هذه الازمة يتعلق بهذه العناصر التي تنتمي لهذه الكلية. كما أن الاشارة الى هذه الكلية والتفاصيل المرتبطة تشير إلى تحول كبير خطير في الحياة الاكاديمية الجامعية في الاردن من المهم التصدي له وقلب مساراته.

يتعلق الامر هنا بكلية الهندسة، وهي كلية كانت رائدة في مؤشرات عملها وانجازها، بل كانت رائدة على صعيد استشراف رؤية الدولة الاردنية لمستقبل الجامعات في الاردن والمنطقة حين أنشات الكلية لتكون مركزا وقاطرة للتعليم التقني وحيث حظيت بدعم ورعاية واحتضان من شخصية وطنية تنتمي لرجال الاعمال. ففي هذه الكلية وبعد سنوات طويلة بل وعقود من النجاح وتقديم النموذج على صعيد الجامعة بل وعلى صعيد الجامعات في الاردن جرى حدث غير كثيرا من حال الكلية كما غير من حال الجامعة، بحيث لا يمكن فهم أزمة الجامعة اليوم عما جرى وما زال يجري في هذه الكلية.

فقبل سنوات فوجئ مجتمع الجامعة كما فوجئت أنا حد الانصعاق من قرار مجلس الامناء حينها المبني على تنسيب من الرئيس حينها، بتعيين قائم بأعمال للكلية ممن هم في بداية حياتهم المهنية وبخبرة لا تتعدى بضع سنوات وقد حمل حديثا رتبة استاذ مشارك في كلية تشتمل على اكثر من 26 ممن يحملون رتبة الاستاذية، واكثر من ثلاثين استاذا ممن يملكون الاقدمية على صعيد ذات الرتبة. ولان القرار كان كاسرا لقانون التعليم العالي الذي يشترط رتبة الاستاذية، وكاسرا للاعراف في الجامعة بل وفي الكلية ذاتها، فقد توجه عدد من اساتذة الكلية بنص مكتوب لرئيس الجامعة حينها محتجين على القرار، وذهب بعضهم الى المحكمة الادارية محاولين ابطال القرار. يومها توقفت كثيرا عند ما يجري في هذه الكلية الكبيرة والمحورية مع شعور عميق أن الكلية والجامعة يسيرون في مسار حزين.

في خطورة القرار الذي اتخذ يومها على صعيد كلية الهندسة التي كانت ترفد موازنة الجامعة بملايين الدنانير من عوائد الموازي بسبب السمعة الاكاديمية التي كانت تختص بها. يمكن اللجوء إلى عالم الجيوش كي نفهم معنى القرار وخطورته. فتعيين من لم يبلغ الاربعين من عمره وبخبرة لا تزيد عن خمس او ست سنوات عميدا لكلية كبيرة ومحورية ومركزية، يشبه تماما تعيين قائد لفرقة عسكرية في الجيوش الحديثة يبلغ عمره 22 عاما. فمتوسط سن التقاعد في عالم الجيوش يقل عن خمسين عاما، في حين ان سن التقاعد الرسمي في الجامعات هو سبعين عاما. وأما متوسط بدء العمل في التدريس الجامعي فهو يقترب من ال 35 عاما. فمن يبلغ اربعين عاما هو في نهاية سنوات خدمته في الجيوش، في حين أنه ما زال مبتدئا في عالم الاكاديميا. ومنذ ذلك اليوم تكرس اتجاه في الجامعة بات مدمرا وبات يمكن روية اثاره المدمرة في كل مكان.

ففي جامعة اليرموك باتت تتكرس ثقافة تفضيل كرسي الادارة على التدريس والبحث العلمي. وباتت الثقافة التي تعرف النجاح على أنه حجم الموقع الاداري الذي تشغله وليس عدد سنوات التدريس الناجحة وعدد الابحاث ذات القيمة التي نشرتها، وعدد المشاريع الدولية التي انخرطت بها، وعدد الخدمات التي انخطرت بها وقدمتها لمجتمع الكبير أو الصغير. في اليرموك يمكن ملاحظة سيطرة عناصر على الادارة لم تنخرط في التدريس الذي هو شرط عضوي للبحث العلمي الناجح. فالتدريس والخبرة التدريسية الطويلة هي ضرورية لمن يود أن يدير العملية التدريسية والبحثية من خلال موقعه كعميد او كنائب للرئيس. فالتدريس وحده وسنوات التدريس الطويلة هي التي تبني كمية المعارف والمهارات، وهي التي تعرف الاستاذ بعالم الطلبة علميا وثقافيا ومعرفيا، ومن خلال التدريس يتعرف الاستاذ على أهم النظريات والتيارات العلمية ما يمكنه من الانخراط في الابحاث والمشاريع الدولية وبما يمكنه لاحقا من إدارة عمليات التدريس والبحث العلمي التي هي جوهر الفضاء الجامعي. فكيف لمن ينخرط في التدريس وفي عالم الطلبة وفي عالم الكتب والمؤتمرات أن يتحول لمدير وعميد وليدير هذه العوالم؟؟؟

ولان حال الادارة في الجامعة بات على هذه الوتيرة، فإن انفصالا بل وقطيعة باتت تتكرس كل يوم ووصلت لمستوياتها الخطيرة في الجامعة، فكثير من العمداء لم يعودوا نقطة للاستقطاب داخل كلياتهم كي يديروا ويقودوا فباتت لغة التخويف من حرمان من حقوق، أو ايقاع عقوبة أو تحذير من كمين هي من يحرك العمل الجامعي وهي ما يشعر الكثيرين أن العميد موجود. ووصلت القطيعة الى حدود خطيرة بين رئاسة الجامعة والعاملين فيها ولعل الدليل الاكبر على هذه القطيعة هي حجم الحراك الذي تشهده الجامعة إن كان أمام درج الرئاسة فيها، أو على صفحات منتدى اليرموك الافتراضي على تطبيق الواتس أب أو على صفحات وسائل الاعلام المختلفة. ولعل الدليل الاكبر على خطورة القطيعة بين إدارة الجامعة وقواعدها الاكاديمية والادارية هو ما جرى في اللقاءات التي عقدها عطوفة رئيس الجامعة مع هذه القواعد وإذ كان عدد الحضور من جمهور الاكاديميين والاداريين قليلا جدا جدا مقارنة بزمن كانت زيارة رئيس الجامعة لاي كلية بمثابة حدث تتم تداول اخباره وموعده بين العاملين ولا تتسع مقاعد المدرجات الكبيرة على استيعاب أعداد الحاضرين.

الازمة في اليرموك تتفاقم وباتت الجامعة في حال من الجمود ومن الشعور بموقع القيادة فيها، بل ومن مستوى غير مسبوق من التوتر والعدائية فيها بما ينذر بانفجارات اكاديمية ليس على صعيد اليرموك بل على صعيد الجامعات كلها. كما أن الاتهامات باقحام الجسم الطلابي فيها في تلك الاستقطابات التي تنتجها ازمة اليرموك ينذر بعواقب وتبعات اكثر خطورة إن ترك ملف اليرموك على هذا النحو من الجمود وعدم الاكتراث من قبل صانع القرار.


.