من الغريب خوض مناقشة مرة بعد مرة عن إمكانية عدم إعجاب أحدهم بالفن الذي قدمته فيروز طوال عقود، أو إمكانية عدم استساغة أحدهم لصوتها أو لنوعية الموسيقى التي تقدمها أو وصف تراثها بأنه محافظ وكلاسيكي. والغريب أكثر هو الاستهجان الذي يتلقاه من يجرؤ على التعبير عن ذلك الشعور علناً، وكأنه جريمة توهن من نفسية الأمة.
المحبة الجارفة للمغنية التي احتفلت بعيد ميلادها التسعين، هذا الأسبوع، واضحة وطبيعية بالنظر إلى تاريخ فيروز الفني الطويل وشعبيتها على مر السنين، لكن تحويلها قسراً من فنانة إلى رمز وطني يجب تقديسه، هو المشكلة في البلاد العربية التي لطالما عانت مشكلة تقديس الشخصيات على كافة المستويات، خصوصاً على المستوى السياسي.والفكرة الأساسية هنا أن الفن نسبي، وإمكانية محبته من عدمها أمر يعود للفرد المتلقي لذلك الفن، وليس لفكرة عامة مفروضة عليه لمجرد كونها فكرة تؤيدها الغالبية ولا تحتمل نقاشاً. ما يعجب الغالبية قد لا يتناسب مع ذوق البعض، وهذا لا يُقلل من قيمة العمل الفني أو مكانة الفنان، بل يسلط الضوء على تنوع التجارب الإنسانية. في النهاية، الفن يهدف إلى استثارة المشاعر والأفكار، وليس إجبار الجميع على التماهي معه.ومن هذا المنطلق يصبح "التعصب لفيروز"، مجازاً للحصار الذي تعانيه الحريات الفردية عموماً في البلدان العربية، والتي تجبر الأفراد على تطويع شخصياتهم لتتماشى مع السائد العام، مهما كان ذلك مرهقاً وغير صحي، سواء تعلق الأمر بالسياسة أو أسلوب الحياة أو الميول الجنسية والهوية الجندرية وصولاً إلى أمور بسيطة مثل الموقف من الموسيقى.مثلاً لو قال أحدهم أنه لا يحب نوال الزغبي أو نجوى كرم لما حصلت مشكلة، لكن تجاوز الخطوط الحُمر نحو عدم حب فيروز يصبح مشكلة تستدعي التبرير. ويعني ذلك أن من يحب فيروز ينصب نفسه وصياً على أذواق الآخرين بوصفهم الأقلية الناشزة التي تستدعي التأنيب، أو على الأقل الاستهجان بصيغة التساؤل، أو إيجاد مبررات سياسية لذلك الشعور "الصادم" من باب استثمار أنظمة عربية قمعية في موسيقى فيروز، كنظام الأسد في سوريا الذي حول الاستماع إلى موسيقى فيروز كل صباح إلى طقس قسري لا يمكن التهرب منه، في الإذاعات والتلفزيون والمدارس.فيروز في هذا السياق هي رمز لمشاكل متراكمة في المجتمعات العربية، يمكن ملاحظتها خصوصاً في التنشئة والتربية والتعليم، مع ميل إلى تحجيم الشخصية الفردية لصالح الأخلاق والقيم المجتمعية، حيث لا يستطيع الأفراد تكوين وجهات نظرهم عن أنفسهم أو عن العالم من حولهم، إن كان ذلك منفصلاً عن وجهة نظر عائلاتهم ومحيطهم الاجتماعي والسياسي. ويصبح نوع الموسيقى أو الملابس أو الجندر والهوايات وغيرها من التفاصيل اليومية، قراراً لا يتخذه الفرد نفسه بل يُفرض عليه، سواء بصورة فعلية، مثل إجبار الفتيات على ارتداء الحجاب، أو بطريقة نفسية متراكمة، عبر عدم طرح أي بديل، ما يجعل الأفراد يظنون أنهم يحبون شيئاً أو يختارونه، رغم أنهم في الواقع لا يختارون، بل يعيشون واقعاً حتمياً أحادي الاتجاه.وبين عيد ميلاد فيروز والحرب المستمرة في لبنان، تتم إعادة تدوير فيروز كأيقونة ورمز، لا كمغنية، إلى حد مطالبتها بالحديث والكلام عن الوضع السياسي والأمني في لبنان، رغم أن ذلك ليس من وظيفتها ولا يقدم شيئاً على الطاولة أصلاً في بلد مأزوم اقتصادياً وهوياتياً منذ عقود. والسؤال هنا: لماذا يتم وضع فيروز في تلك الخانة التي ترفعها عن بقية البشر وعن زملائها من الفنانين، الذين إن تحدثوا عن السياسة لكان التوبيخ والسخرية لهم بالمرصاد، حتى لو كان ما يعبّرون عنه حقاً لهم، مثل حديثهم اليوم عن حسرتهم تجاه ما حل بلبنان في الحرب الحالية أو خلال الأزمة الاقتصادية والكوارث السابقة المتتالية، من انهيار الليرة وأزمة المصارف إلى انفجار مرفأ بيروت؟وإذا كانت فيروز قد أصبحت رمزاً، فإن ذلك ليس بسبب فنها وحده، بل نتيجة عوامل عديدة أخرى، مثل قدرتها على التزام الحياد السياسي في أوقات معاناة لبنان من الانقسام، وأيضاً بفضل تصديرها باستمرار لها كوجه يمثل هوية البلد. لكنها، كأي فنان آخر، ليست فوق النقد أو التقييم الشخصي، لأن تقدير الفن لا يجب أن يتحول إلى عبء ثقافي على الجميع.وهنا، يتم ربط فيروز عادة بمفاهيم ثقيلة أكبر من أن يحملها الفن نفسه، مثل حب الوطن والأمومة وصولاً إلى التدين والقيم المحافظة التي يمثلها صوت فيروز كصوت للبنان المسيحي المحافظ، بعكس الصورة التي عكستها صورة نظيرتها الراحلة صباح كوجه للبنان الليبرالي الأكثر تحرراً. والمشكلة الأكثبر هي الظل الذي تلقيه تلك المفاهيم على المغنيات المعاصرات اللواتي يعانين مشكلة المقارنة مع فيروز بوصفهن نجمات بوب، كتصنيف تحقيري لهذا النمط من الموسيقى الذي يراه البعض تجارياً، ودائماً ما يتم ربطه في المخيلة العامة بالجسد والعاطفة السريعة والجنس، بما في ذلك المغنية المغربية سميرة سعيد وهي واحدة من المُجدّدات في الموسيقى العربية الجماهيرية منذ ثمانينات القرن الماضي. وضمن هذا المحدد، يتم انتقاد المغنيات المتقدمات في السن، كسميرة سعيد أيضاً (67 عاماً) من باب "التصابي"، أي التصرف بطريقة لا تليق بسيدات في سنهن! لدرجة جعلها تصرح قبل سنوات: "لا أحد يقول لفيروز اعتزلي".لكن الدفاع عن فيروز من قبل معجبيها، قد يلقي الضوء على نواحٍ أخرى، مثل الفخر الوطني (Nationalism) ووهم الانتماء لبلدان ممزقة، ما يجعل التمسك بالحلم الذي تمثله فيروز لمحبيها، جوهرياً، مهما كان مدفوعاً باللا-استقرار المحيط بهم. وعليه، فإن المس بذلك الحلم، الذي قد يراه آخرون كابوساً، يصبح مساساً بهوية الأفراد التي يسقطونها على فيروز، سواء أرادت ذلك شخصياً أم لا، ما يخلق دائرة مغلقة التأثير، تزداد فيها سطوة الأيقونة على محبيها وكارهيها في وقت واحد.وهنا، يجب التساؤل عن الكيفية التي ينظر بها الجيل الجديد إلى فيروز؟ بالنسبة للأجيال الأكبر، تمثل فيروز ذكرى أوقات مضت وشعوراً بالحنين إلى الوطن والاستقرار. أما الشباب من "الجيل زد"، فربما تكون علاقتهم بها أقل حدّة، لأنهم نشأوا في عالم موسيقي أكثر تنوعاً، ويمتلكون خيارات أوسع تعكس أذواقهم المتجددة. وفي الوقت نفسه، ربما تكون تلك العلاقة أقوى من باب حضور الأزمات السياسية والاقتصادية بحدة في العقدين الأخيرين مع بقاء فيروز في المخيلة العامة كرمز للاستقرار. هذه النظرة الجيلية قد تفتح الباب على فهم أعمق لكيفية تغير القيم الثقافية بمرور الزمن، أو رسوخها بالنظر إلى الجمود والتكرار الذي لا يمكن إنكار وجودهما في المجتمعات العربية.ومن الجيد أيضاً، مقارنة فيروز كأيقونة غنية برموز للفن العالمي مثل مايكل جاكسون أو مادونا، اللذين لا يمنع تأثيرهما الهائل في الثقافة العالمية منذ ثمانينيات القرن الماضي مثلاً، من توجيه انتقادات فنية لهما، أو من عدم الإعجاب بهما، أو عدم معرفة أفراد من الجيل الجديد لهما أصلاً، من دون أن يقلل ذلك من أهميتهما كأعظم مؤثرين في تاريخ الموسيقى المعاصرة حتى اليوم. ومن الطبيعي أن يقول شخص أنه لا يحب موسيقاهم، من دون أن يُعتبر ذلك خيانة للهوية الثقافية. وبالمثل يجب أن تكون فيروز، فنانة لا قديسة، مغنية لا ديكتاتورة.