تعتبر الحروب من أكثر الكوارث الانسانية تأثيراً على الأفراد والمجتمعات، بحيث تمتد آثارها لتطال الجوانب النفسية بصورة عميقة. فمع اندلاع هذه الحروب، يشعر الناس بالخوف، الفقدان، والاضطراب، ما يترك آثاراً طويلة الأمد على صحتهم النفسية. هذه الظروف القاسية لا تؤثر على الذين يعيشون في مناطق النزاع وحسب، بل تُلقي بظلالها أيضاً على المجتمع كلّه. لكن في خضم كل تلك المآسي، هناك أفراد وجماعات يسعون إلى المساعدة من خلال تقديم الخطوات اللازمة لمواجهة التحديات النفسية.
في ما يتعلق بهذا الموضوع، أوضحت البروفيسور في علم النفس التربوي والأستاذة في الجامعة اللبنانية رشا تدمري لـ”لبنان الكبير” أنّ “الأفراد في فترة الحروب يمرون بأسوأ حالاتهم النفسية بسبب فقدان شعورهم بالأمان الذي يمثل الحاجات النفسية الأولى التي يسعى دائماً الانسان إلى تحقيقها. تستمر المعاناة النفسية من الضغوط، القلق، الخوف لفترات طويلة حتى انتهاء الأزمة وفي مثل هذه الظروف يفقد الانسان شعوره أنه بمأمن حتى ولو كان بعيداً عن المكان المستهدف جغرافياً، فيشعر بالخوف من عدم قدرته على اشباع الحاجات الأساسية مثل المسكن والأكل والشرب خصوصاً مع وجود العائلة”.
ردود أفعال الاطفال والمراهقين في الحرب
ردود أفعال الأطفال والمراهقين تجاه الحروب والنزاعات والكوارث تختلف من فئة عمرية إلى أخرى وحتى ضمن الفئة العمرية الواحدة تبعاً لاستعداد الفرد النفسي والتاريخ المرضي للعائلة ودرجة تأثير الحروب على الفرد نفسه، بحسب تدمري، التي أشارت الى أن “من أولى النتائج الخوف والقلق سواء عند الاطفال أو المراهقين أو حتى الراشدين، ففكرة الحروب أو الكوارث تتخطى قدرة الأطفال على استيعابها لأنّهم في هذا العمر الصغير يخلطون بين الواقع والخيال وليست لديهم القدرات أو المهارات اللازمة التي تمكنهم من التعامل مع أفكارهم المقلقة. هذه الظروف الاستثنائية من الممكن أن تنتج عند الاطفال أفكاراً مقلقة حول انفصالهم عن أهلهم وتطرح العديد من التساؤلات في ذهنهم عن مصيرهم، وبالتالي تركيزهم على الأفكار السلبية سيزيد من درجة التوتر والخوف لديهم وسيجعلهم يفكرون أكثر في هذا الموضوع. وفي حال شاهدوا واقعاً أليماً لأحد الاشخاص، سيتسبب هذا في اضطراب ما بعد الصدمة الذي لا يظهر مباشرة بعد رؤية هذه المشاهد الأليمة، بل من الممكن أن يظهر بعد 6 أشهر تقريباً. واضطراب ما بعد الصدمة هو نوع من التفكير الواعي واللاواعي عن طريق اعادة هذا الحدث من خلال الأفكار الواعية واللاواعية وبالكوابيس والقيام بردود أفعال جسدية وكأنه يعيش هذه المواقف مرة أخرى”.
كيف يختلف شعور الفقدان طبيعياً وفي الحرب؟
بالنسبة الى شعور الفقدان في حالة الحروب، قالت تدمري: “في الحالات الطبيعية عندما نفقد شخصاً عزيزاً علينا نشعر بالحزن، لكن الفقدان في حالات الحروب هو فقدان متعدد الأوجه (فقدان للمنزل- للذكريات- للأمان- للعائلة- للاستقرار) فبالتأكيد هذا الأمر سيسبب الكثير من الآلام النفسية ومشاعر كالحزن، الغضب، الارتباك، القلق وما يحمله من يأس واحباط. شعور الفقدان أيضاً مرتبط بالكثير من الأعراض والمؤشرات التي تظهر على عدة مستويات، فعلى المستوى الجسدي تظهر اضطرابات في النوم والأكل وشكاوى مختلفة لآلام جسدية متفرقة غير مبررة طبياً أو صحياً. أمّا ذهنياً فمن الممكن أن نرى تراجعاً في القدرة على التركيز، التشتت، مشكلات في الذاكرة أو التفكير المفرط. على المستوى النفسي نرى علامات متنوعة من أبرزها الحزن، الخوف، القلق، لوم الذات، الشعور بالذنب، التعلق أكثر بالأشخاص المقربين الموجودين بعد فقدان المرء الشخص العزيز عليه، انكار المشاعر وأحياناً تجنب مناقشة مشاعره، تجنب الأنشطة أو الأشخاص أو الأماكن المرتبطة بالشخص المتوفي، الحساسية المفرطة والبكاء. من الممكن أن تظهر سلوكيات متكررة غير مناسبة كقضم الأظافر، عصبية، تبول لاارادي، عدائية عزلة، انسحاب وغيره”.
كيفية تقديم المساعدة للنازحين
في هذه الفترة لا بد من مساعدة الأفراد لتعزيز الصحة النفسية لديهم من خلال تقديم الاسعافات الأولية النفسية. في الفترة الأولى يكون هدفنا دعمهم من خلال تقديم تدخلات سريعة ولكن فاعلة، ولا تقتصر هذه الاسعافات على متخصص بعلم النفس بل يمكن أن يقوم بها أي عامل اجتماعي أو عامل في المجال الصحي، وفق تدمري، التي شددت على أنّ “من غير المطلوب أن تكون هناك نظرة ايجابية للحرب ولكن يجب الاعتراف بأن الوضع صعب ويجب على الفرد أن يطور من مهاراته حتى يتأقلم أكثر مع الظروف الاستثنائية. فمن أبرز مبادئ العمل المرتكز على تقديم هذه الاسعافات هو التحقق من وجود أشخاص لديهم احتياجات عاجلة أو أشخاص لديهم أضرار، فنحاول التقرب منهم ومساعدتهم في الحفاظ على الهدوء من خلال تمارين التنفس، تخيل الأماكن الآمنة، التفكير بصورة منطقية وبمدى حقيقة الأفكار التلقائية السلبية التي تظهر لديهم، أن نساعدهم على التواصل مع الأشخاص الذين يحبونهم غير القادرين على الوصول اليهم، مساعدتهم على استخدام التوجهات الروحانية لديهم للتخفيف من مشاعر الألم، أن ندخلهم في عمليات المساعدة للأفراد الآخرين المتضررين من الحروب وهذا بدوره يعطيهم أهدافاً جديدة ويشعرهم بالاندماج أكثر، وأن نسمعهم بانتباه ونعطيهم فرصة للتعبير عن أنفسهم ونشجعهم على التكلم من دون ضغط ثم نقوم بترتيب أفكارهم وصياغتها بطريقة مختلفة لنؤكد فهمنا لأفكارهم”.
دور الجمعيات في تقديم الدعم النفسي للنازحين
أمّا عن تدخل الجمعيات في مراكز الايواء لتقديم الدعم النفسي الاجتماعي، فقد أوضحت المعالجة النفسية مايا دبوق لـ”لبنان الكبير” أنّ “التدخل في مراكز الايواء هو أكثر للدعم النفسي الاجتماعي وللقيام بالنشاطات الاجتماعية للأطفال وكبار السن وللنساء، حتى أنّه تقام في بعض الأحيان نشاطات للرجال أيضاً. عندما نعمل مع الأطفال من سن صفر إلى ١٨ تقسم النشاطات إلى فئات حسب الأعمار وتصنّف وفق الطفولة المبكرة أو الطفولة المتوسطة أو الطفولة المتأخرة، كما أننا نقسّم النساء إلى فئات سواء كنّ متزوجات أم لا حتى نتمكن من التعامل معهن”.
وتابعت: “اذا تكلمنا عن نشاطات دعم نفسي اجتماعي أو نشاطات ترفيهية نبدأ بتقسيم الموجودين في مراكز الايواء إلى مجموعات وفئات، أمّا اذا كنا نتكلم عن الاسعافات الأولية النفسية فهذه تطال الجميع بالطريقة نفسها. وقبل أن نبدأ بتقسيم المجموعات نقوم بما يسمى focus group discussion أي مناقشة هؤلاء الناس لنفهم منهم ماذا يريدون”.
وعن تجاوب النازحين مع هذا النوع من الدعم، أشارت دبوق إلى أنّ “البعض يقوم بافراغ غضبه على مقدمي الدعم في مراكز الايواء وهذا يعتبر نوعاً من اراحة المشاعر. هدفنا الأساسي أن نساعد الناس على تفريغ مشاعرهم السلبية وأن يتعرفوا على الخدمات الموجودة في المنطقة المقيمين فيها، لكن من المستحيل أن نتمكن من مساعدة أي شخص اذا رفض استقبال هذه المعلومات”، لافتة الى أن “هناك تجاوباً في شق الاسعافات الأولية النفسية لكن عندما تصبح الأمور تحليلية أكثر ونبدأ بالتعرف على احتياجات الفرد، نرى أنّه يفضّل الدعم المادي أكثر في ظل هذه الظروف”.
وبالنسبة الى مكان وجود مقدمي الدعم النفسي الاجتماعي، قالت: “الدعم يكون في كل مناطق لبنان الآمنة حالياً وفي بعض الأحيان يتم تقديم هذا الدعم عبر الهاتف. تقوم المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين UNHCR بالتقسيم الجغرافي للجمعيات المعنية كافة حسب خدماتهم كي لا تكون هناك عدة جمعيات تقدم الخدمة نفسها في بقعة جغرافية واحدة”.