أنتظر خارج دكانة السمانة فيما المرأة العجوز تجادل البائع ويردّ عليها. تبيّن بأنها تطالبه أن يضع مشترياتها في كيس نايلون في حين يحتجّ بأنها تملك واحداً، فتعيد الشرح بأن ما تملكه مخصّص للسمن وبأن اللبنة ستكتسب زفارة السمن إذا ما جمعت معه. فيجيب حاسماً: "كيس ما في، ما بدك خدي الألف". يناولها ورقة نقدية، وفي يده الأخرى مسحة من اللبنة البيضاء على نايلون شفاف. توافق، تمدّ يدها، ثم سرعان ما تتراجع، فأتدخل في الوقت المناسب لأناولها كيساً:"هي شغلتك يا حجة. كيس؟ تفضلي، وهي كيس، وكبير كمان". تبسّمت كما لو أني أعطيتها حاجاتها كلها دفعة واحدة، كغريقٍ رُمي له طوق النجاة. تسحبه، وتريني كيس السمن وقد اعتلت وجهها تقاسيم مؤثرة. تشرح بأن الحقّ في صفّها، نظرتُ في الكيس الذي احتوى بالكاد ملعقتي طعام من السمن. ابتعدتْ وصوتها المتهدّج يدعو لي دون توقف. لا داعي لأعلمكم بحرج البائع، ولا بالذرائع التي ساقها لي.معه حقّ، طبعاً. فمشتريات تُقدّر بألف ليرة، بكم ليرة سيعود ربحها؟ هل يذهب الربح ورأس المال ثمناً لكيس نايلون؟! تماماً هذا ما يحدث لنا كلنا في هذه البقعة الجغرافية. ندفع عمرنا، نقايض به سبل الحياة، مجرّد أيام وأيام نقسّطها لسدّ ثغرات العيش، على أمل أن تعوّض المقبِلات منها ما ننفق. ننتظر عند عتبة الزمن الذي يعاملنا كزوجة الأب، يتجهّم ويوكل لنا مزيداً من المهام التي تفوق طاقتنا.من جرّب الحرب يعلم يقيناً ما تجرّه من خراب. ليست المدافع والرصاص هي الفصل. القول الفصل لتفاصيل يومية نؤجل الإحساس بها بذريعة "دبري حالك موقت لبينما نلاقي حلّ"، في حين تمضي الحلول كجزرة أمامنا، مع كلّ خطوة، نمدّ يدنا لنتلمسها، فإذ بها تبتعد مسافة خطوة!مخططات السفر سئمت حديثنا بشأنها، تدير ظهرها كزوجة عبوس وتنام كلّما برق أمل نلتقيه مصادفة. وكأنها تعلم تمام اليقين بأنه الزيف الذي ما فتئ يناور ليكسب الوقت. والوقت يمضي بهدوء، هدوء نقطة ماء في صنبور تجرّ وراءها نقطة ضمن روتين يكاد يجرح الرتابة.في حياة كل منا كيس نايلون كبير، نكدّس فيه أشياء ما عدنا قادرين على جمعها سوياً. فالحب في هذي البلاد مضنٍ، والإنجاب ذنب قد لا يُغتفر، أما المرض فهو من الكبائر نجتنبه وقد لا يجتنبنا. نحتاج كيساً منفصلاً للأحلام لتبقى طازجة، الأمنيات التي وعد القلم الوردي بأن يسجّلها في لائحة العام الجديد، ذواتنا التي تذوي كقطعة مارشميلو مسّتها نار. فماذا عنا نحن؟ عن وقتنا الذي نطبخه على عجل ونلتهمه، عن موسيقى نحب سماعها، عن أزقّة نشتاق التسكّع فيها، وعن رفاق مضوا وكأنهم لن يعودوا. ويمضي الوقت سريعاً، لدرجة أننا كبرنا في روزنامة "المؤقت"، في حين اتّسع رحم المؤقت ليحمل بنا جميعاً، ننتظر ساعة الخلاص، وكلّما حان المخاض، تعسّرت الولادة.هل سنأثم هنا طويلاً؟ هل سيكافئنا صبرنا الذي فُرض علينا كعقوبة جدول الضرب. كتبنا الجداول كلها يا إلهي، مئة مرّة، ألف مرّة! وما رنّ جرس الفرصة بعد. أخاف أن نصل نهاية النفق، إلى النور المُشتهى، نتنفس الصعداء كصائمٍ بلغَ عيده، أخاف أن يأتي المنادي: "صبرتم يوماً أو بعض يوم... لا حلّ يغطي ما أنفقتم، قفوا في طابور المؤقت لنجد لكم فتوى".