في عام 1982 وفي ذروة الحرب العراقية الإيرانية، أطلق الخميني شعاره الشهير "طريق القدس يمر عبر كربلاء". كان الشعار تجسيداً لأولويات النظام (الإسلامي) الجديد. فالقدس التي أكد أهميتها وأعلن رغبته بتحريرها، ليس لها طريق مباشر. والوصول إليها يتوجب أولاً المرور بكربلاء واحتلالها، قبل الاستمرار نحو "التحرير". وأثناء الحرب، عثرت القوات العراقية -كما نشر آنذاك- على خريطة في حوزة أحد القتلى الإيرانيين، كانت تتضمن أسهماً لهجوم إيراني مفترض لاحتلال كربلاء، ثم انطلاق هجمات من هناك باتجاه القدس مروراً بالأردن والسعودية.لم يكن لهذا الشعار وقتذاك من تأثير في الجمهور العربي. فهو بلا معنى، لا سيما وأن سوريا بزعامة حافظ الأسد كانت حليفة لنظام الخميني، وتشاركه حربه بالدعم العسكري والاستخباري والسياسي. وكان يمكن لطهران لو شاءت تحرير القدس أن تجعل الطريق يمر أولاً عبر الجولان المحتل. فمنها ستحرر أرضاً تعود لحليفتها سوريا، ومنها ستنطلق إلى القدس من أرض أكثر قرباً وبدعم من الأسد ولاحقاً من حزب الله الذي تأسس عام 1982.
بطبيعة الحال، لم يفسر الإيرانيون في حينه كيف أن سعيهم لاحتلال دول عربية بهدف تحرير القدس يمكن أن يستقيم مع شرائهم السلاح من إسرائيل والولايات المتحدة الداعمة لها خلال الحرب مع العراق، بعلم الخميني نفسه، كما قال آية الله منتظري في مذكراته الشهيرة. كما أن شعارات التحرير لم تذكر شيئاً إن كانت إيران ستحارب إسرائيل بسلاح إسرائيلي وأميركي، ظلت طهران تتلقاه من إدارة رونالد ريغان حتى ظهور فضيحة "إيران كونترا" نهاية العام 1986. ويبدو أن توقف هذا التسليح بعد تلك الفضيحة، كان أحد أسباب اضطرار الخميني إلى "تجرع السم" والموافقة على وقف إطلاق النار بعد ذلك بنحو عام ونصف العام.فشلت إيران في احتلال كربلاء، وغاب تحرير القدس عن الشعارات الإيرانية لسنوات عديدة، انشغلت فيها طهران بمعالجة آثار هزيمتها العسكرية. وطوال تسعينيات القرن الماضي، لم يعد "تحرير القدس" أحد شواغل إيران أو أهدافها، ناهيك عن "المرور" من أحد العواصم أو المدن العربية، حتى الغزو الأميركي للعراق، وما تلاه من توسع الطريق الإيراني نحو العراق واليمن ثم سوريا ارتباطاً بحزب الله في لبنان.
عاد "تحرير القدس" للتداول الدعائي الإيراني بالارتباط مع استئناف مشروعها التوسعي، وقامت طهران باستلهام تجربة حزب الله وتسخير خبرته العميقة، لتأسيس القوى خارج الدولة من الميليشيات في العراق، ومن ثم زرعها وسواها مثل الفطر السام في سوريا، وأخيراً في اليمن. وجميعها محكومة من "فيلق القدس" الإيراني، لتصبح هذه القوى هي الأذرع التي "ستحرر القدس". وهو ما كان صك الشرعية الذي ظلت تراهن عليه وتشهره بوجه كل من ينادي بعودة الدولة لممارسة سيادتها واحتكارها للعنف كما ينبغي.المشكلة الأهم التي رافقت هذا الضجيج الخاص بخلق الدول الفاشلة، كان يتجسد بأن "طريق القدس" كان ينبغي أن يمر أولاً بالحواضر العربية الكبرى، على شاكلة الشعار الأساسي الخاص بكربلاء. وهكذا أصبحت بيروت وبغداد والموصل ودمشق وحلب وحمص وصولاً إلى صنعاء وتعز، أصبحت جميعها بمن فيها وما ترمز إليه، مشاريع استهداف مباشر بذريعة القدس. وبالطبع، فكل من يسقط صريعاً في معارك الاستيلاء عليها من عناصر هذه الميليشيات سيكون "شهيداً على طريق القدس"، مهما بلغ من سفك لدماء عربية على يديه. وهكذا كان.
اليوم، نسمع عن قتلى يعسكرون في سوريا منذ سنوات للمشاركة في قتل أهلها، على أنهم "شهداء على طريق القدس"، وآخرون يقتلون في مبان وسط المدنيين في بيروت على أنهم كذلك، وينطبق الحال على من هم في مناطق أبعد في العراق واليمن، وبالطبع إيران.القدس، لم تكن بحاجة لتدمير دولنا وقتل مئات الآلاف من شعوبنا وتشريد الملايين، كي تتحرر. وفلسطين بكاملها لم تسألنا يوماً أن نسمح لأحد بالقضاء علينا وإذلالنا كي تتخلص من وطأة احتلالها. ولو تغاضينا عن فرص جدية لاحت للمحور الإيراني كي يقوم بتحقيق ما يدعي أنها أهدافه، ولم يقم باستغلالها، لا سيما في الأيام الأولى بعد السابع من أكتوبر، فإن القتلة الذين ولغوا بدمائنا بذرائع شتى، لن يحرروا أرضاً، ولا يعرفون مقدساً. والقتلى منا لن يقوموا بذلك أيضاً. ولهذا، فالقدس هي ذاتها ضحية مركزية لكل هذا العبث، والمتاجرة بالشعارات، وبمعايير "الشهادة" على طريق القدس.