لا أدري إن كان بإمكان الإنسان أن يكون موضوعيًا أو يعتمد مقاربة علمية في ظل اهتزاز الأرض تحت قدميه بفعل الغارات الإسرائيلية الوحشية. أكتب هذه السطور بعد ساعات قليلة من مجزرة مروعة ضربت منطقة البسطة في قلب العاصمة بيروت.منذ وقوع هجوم 7 أكتوبر 2023، وقرار حزب الله فتح جبهة "الإسناد" في اليوم التالي، بزعم تخفيف الضغط عن غزة، تزايدت التقارير والحملات الدعائية التي سلطت الضوء على قدراته العسكرية وترسانته. المعلومات المتداولة في هذا السياق غالبًا ما تستند إلى تقديرات مراكز أبحاث، سواء من تصريحات سابقة لقيادة الحزب أو من معلومات استخباراتية. ورغم الإجماع على ضخامة ترسانة الحزب من الصواريخ والطائرات المسيرة، فإن المسألة الأهم لا تكمن في دقة هذه الأرقام بقدر ما تتعلق بالأثر الدعائي الذي سعى الحزب ووسائل الإعلام المؤيدة له إلى ترسيخه. ورغم ذلك، لم يسهم نشر مقاطع مثل فيديو منشأة "عماد 4" وفيديو "الهدهد" في منع التصعيد العنيف الذي تحول من حرب مناوشات حدودية إلى حرب فعلية بدأت يوم الاثنين 23 أيلول."الميدان" لا يردعأظهرت الحرب المستمرة أن الدمار الواسع الذي لحق بالجنوب والبقاع والضاحية لم يُقابله، في أفضل تقدير، سوى إزعاج محدود لإسرائيل. ومع تطور الأحداث، تم استبدال معادلة الردع التي كان الحزب يروج لها قبل تصعيد أيلول بعبارة دعائية جديدة: "الكلمة للميدان". والمقصود بـ"الميدان" هنا هو المواجهة البرية مع التوغل الإسرائيلي في المناطق الحدودية الجنوبية.
إشكالية "الميدان" تتجاوز مجرد تحديد جغرافيا المواجهة أو طبيعتها، فهي تشمل استحضار مشاهد حرب تموز 2006 كأساس مرجعي لهذه المعركة. ومن أكبر الأخطاء الاستراتيجية في هذا السياق هو تجاهل الحزب للتطور التكنولوجي الإسرائيلي الذي حصل على مدار 18 عامًا، والاستمرار بعقلية تلك الحقبة.كيف يمكن للعقل "الميداني" أن يرى الواقع وهو يتجاهل التكلفة البشرية الفادحة؟ المجازر المستمرة، وآخرها استخدام العدو لصواريخ مضادة للتحصينات في حي سكني مكتظ في بيروت، تكشف عن وحشية لا حدود لها. خسائر لا مكان لها في صورة "الميدان" الملحمية. لقد أصبح تكرار عبارة "الميدان" على مدار الساعة دعاية معاكسة موجهة إلى الداخل اللبناني، بعد فشل دعاية "الردع" التي كانت موجهة للعدو قبل تصعيد أيلول.
لم يقدم الحزب تفسيرًا لأسباب فشل معادلة الردع في حماية اللبنانيين أو حتى في حماية نفسه، بل استبدل استراتيجيته فجأة بعد اغتيال قياداته واصبح يخوض حرب استنزاف، حرب تُهدر فيها أرواح اللبنانيين ومنازلهم وأرزاقهم، قبل أن تستنزف العدو.صواريخ ميتافيزيقيةبالعودة إلى ترسانة حزب الله، شاع الحديث عن امتلاكه 200 ألف صاروخ وطائرة مسيرة، منها 2000 صاروخ دقيق، و1000 صاروخ بالستي، بالإضافة إلى 2000 طائرة مسيرة.
ومع ذلك، لا يظهر أثر صواريخ حزب الله الدقيقة إلا في حالات نادرة، مثل استخدام صاروخ "قادر 1" الأسبوع الماضي لاستهداف مقر الموساد في تل أبيب. لم نشهد استخدام صواريخ ذات قدرة تدميرية عالية مثل "فاتح 110" إلا مرتين. ولم يسجل حتى اليوم استخدام أي من صواريخ "فجر 5" أو "رعد 500" أو "زلزال" التي تم التباهي بها من قبل. ما ظهر بكثافة كان نسخًا مشابهة لصواريخ خيبر، مثل سلسلة "فادي" السورية الصنع، إلى جانب راجمات غراد تحت اسم "ملاك 1"، ومؤخرًا صاروخ "نصر 2" الذي قيل إنه دقيق، لكن لم يتسنَ معرفة الأثر الذي تركه بعد استهداف القاعدة التقنية في حيفا. بالإضافة إلى ذلك، يتم استخدام صواريخ الكاتيوشا قصيرة المدى بشكل رئيسي لإرهاق "القبة الحديدية" بهدف تمهيد الطريق لدخول المسيرات.
لا تزال الأسباب وراء امتناع حزب الله عن استخدام الصواريخ الدقيقة غير واضحة، وقد تباينت التفسيرات حول هذا الأمر. لكن الحزب نفى، من خلال أمينه العام الجديد، الادعاءات الإسرائيلية التي زعمت أنه فقد 80% من قدرته العسكرية. لكن في ظل استهداف بيروت عدة مرات، يصبح من غير المنطقي أن يمتنع عن استخدامها بإرادته. ومن المرجح أن الحزب لم يكن يمتلك فعلاً 2000 صاروخ دقيق كما قيل، بل كان العدد أقل من ذلك بكثير.
يريدنا حزب الله أن نقتنع بحجم الضرر الذي تسببه صواريخه من دون أن نراه بأعيننا، فكل ما نراه هو مشاهد لإطلاق الصواريخ مصحوبة بموسيقى تصويرية، ثم لقطات من الأراضي المحتلة تظهر صورًا للصواريخ الاعتراضية. وإذا رأينا آثارًا للتدمير، فهي تبدو ضئيلة جداً مقارنة بما يحدث في لبنان من تدمير شامل للقرى ودمار هائل يُسقط الأبنية في لحظات. الدمار في الجانب الإسرائيلي يبدو افتراضيًا! فعندما يسقط صاروخ في حقل، يتم الترويج لحجم الضرر اللاحق بالعدو من خلال مقولات مثل "إسرائيل تنام في الملاجئ" أو التركيز على "الضرر النفسي لدى مستوطني الكيان". وفي الإعلام المؤيد للمقاومة، يصبح ضرر الصاروخ الشارد هو نفسه ضرر الصاروخ الدقيق، على اعتبار ما كان ليفعله لو كان دقيقًا. هو صاروخ ميتافيزيقي، لا يُدرك تأثيره إلا الراسخون في العلم.مسيرات بلا "شاهد"يسجل لحزب الله مساهمته في تطوير الصاروخ الموجه الإيراني "ألماس"، الذي جاء نتيجة استحواذ الحزب على صاروخ "سبايك" الإسرائيلي خلال حرب سابقة، ما أتاح للإيرانيين استنساخه باستخدام تقنيات الهندسة العكسية. ذاع صيت "ألماس" في هذه الحرب بفضل الكاميرا المثبتة في مقدمته، وهو والصواريخ الموجهة الأخرى مثل "كورنيت" يشكلان السبب الأول في خسائر الجيش الإسرائيلي من جنود وآليات.
تأتي في المرتبة الثانية المسيرات ذات التقنية المتواضعة مثل "أبابيل"، النسخة المسلحة برأس حربي صغير والمشتقة من نماذج "مرصاد"، "حسان"، و"أيوب". نجاح بعض هذه المسيرات في اختراق الدفاعات الجوية الإسرائيلية يُعزى إلى صغر حجمها وتحليقها على ارتفاعات منخفضة، بالإضافة إلى أن منظومات الدفاع الجوي الإسرائيلية، كالقبة الحديدية، مصممة للتعامل مع المقذوفات ذات المسارات المنحنية، حيث تعتمد على توقع مكان سقوط الهدف لتفعيل الصواريخ الاعتراضية.
لكن رغم نجاحات هذه المسيرات في اختراق الدفاعات، تظل محدودة في قوتها التدميرية. فعلى سبيل المثال، لم تستطع إحدى المسيرات كسر زجاج نافذة غرفة نوم رئيس وزراء العدو عند الإصطدام، وحتى تلك التي هاجمت قاعة طعام في معسكر بنيامينا، وقتلت 12 جندياً في غرفة مزدحمة بأكثر من مئة جندي، تبقى النتائج التدميرية لهذه المسيرات محدودة رغم كل الجهد الملفت في إيصالها إلى هدفها.
على الصعيد نفسه، لم يُرصد حتى الآن استخدام حزب الله لمسيرات "شاهد" الإيرانية المتطورة بنسخها المختلفة خلال هذه الحرب. قد يُعزى ذلك إلى تفضيل إيران تصدير هذه المسيرات إلى روسيا بدلًا من تقديمها مجانًا للحزب. وبالمثل، لم يُسجل أي استخدام لصاروخ "نور" البحري الإيراني، المشتق من صاروخ "ياخونت" الروسي، رغم الفيديوهات الدعائية التي سبقت الحرب، والتي ركزت على إظهار قدرات الحزب في هذا المجال.
لا جدوى من مقارنة ما سبق بما تمتلكه إسرائيل من قدرات عسكرية واستخباراتية. فطائرة "هرمز 900" المسيرة تملك قدرة على اختراق شبكات الاتصال في لبنان، والمراقبة، وتنفيذ الغارات في وقت واحد. أما صواريخ GPU بكل أنواعها وهي اختصار لـ (Guided Bomb Unit)، فلا حاجة للحديث عن تقنياتها المتقدمة، التي تتضمن اختراق عمق الأرض، إذ يكفي رؤية لحظة التقاط الكاميرا لها قبل أن تسقط على المبنى (GBU-54 الصورة المرفقة). وحتى إذا لم نشاهد انهيار المبنى بعد ذلك، يبقى اليقين بأنه تحول إلى رماد.